قراءة في الانتخابات البلدية والاختيارية اللبنانية

عباس الجمعة

مهما تكن الملاحظات على الانتخابات البلدية، يكفي أنها تزامنت مع ذكرى عيد المقاومة والتحرير والانتصار، ولكن رغم ذلك نحن بحاجة فعلاً إلى تجربة انتخابية جديدة، تكون فعلاً لا قولاً نزيهة بكامل مواصفات النزاهة، ولا تخدشها أي شائبة، ونحن في الوقت نفسه أمام فرصة حقيقية للتعرّف على موازين القوى السياسية المختلفة والمتناقضة أحياناً على الميدان، فقد طفت على السطح ظواهر عديدة نتجت عن السلوك الانتخابي للمواطن اللبناني، لعلّ أهمها بروز التيارات السياسية والمدنية المتفاعلة على الساحة.

وأمام مشهد الانتخابات البلدية وما رافقها من مشاغبات في بعض القرى أو توزيع الرشى، إلا أنها دخلت نفقاً جديداً من خلال المشاركة الفعلية للقوى السياسية والعائلات والمستقلين فيها، رغم أنّ الجميع يتطلع إلى المرحلة الجديدة وهي ضرورة إقرار قانون عصري أو قانون التمثيل النسبي، أو إجراء تعديلات إضافية نوعية أخرى من شأنها أن تشكّل نقلة تجديدية وتطويرية مهمّة في إدارة عمل البلديات وعلاقتها مع المجتمع المحلي، خاصة أنّ نسبة المقترعين لم تأتِ حسب الرغبة، نتيجة الخلاف الحادّ في الأوساط الشعبية، خاصة على مستوى المشاركة الشعبية في الانتخابات، لذلك نؤكد أنّ المشاركة في الانتخابات البلدية هي واجب ضروري، ولا تقلّ أهمية عن الانتخابات النيابية، لأنها محطة تاريخية مهمة تشكل رافعة جديدة في حالة النهوض الشعبي، وتصويب العلاقة بين المجالس البلدية والأوساط الشعبية التي تنتظر أن تطوّر دورها وتصحّح علاقتها بالناس، خاصة مع مصالح الفقراء والمحرومين من الخدمات العامة، لهذا نحن نقرّ بأنّ المجالس البلدية محطة مفصلية رغم نزعة التملمُل من إحكام القوى السياسية سيطرتها على كامل القرار التمثيلي للناس، حيث سُجل فقط في الانتخابات ظهور حالات اعتراض، لكنّ هذه الانتخابات أنتجت تحالفات جديدة، وكشفت عن تحالفات أخرى، كما كشفت عن عدم قدرة المجتمع المدني على تشكيل بديل.

من هنا نقول إنّ وظيفة البلدية، كسلطة محلية، هي تنظيم الفضاء الحياتي للناس، حيث توفر لهم حوافز التفاعل والتواصل من خلال تغليب العام الاجتماعي على الخاص العائلي أو الطائفي أو الفئوي السياسي، فإنشاء الطريق العامّ والمدرسة والمستوصف والمركز الطبي والمكتبة العامة والنادي الثقافي الاجتماعي والملعب الرياضي والحديقة العامة والمشروعات العامة على اختلافها للجميع، خاصة بناء المساكن الشعبية للعائلات الفقيرة والشباب، كلها عوامل تساعد على أنسنة المجتمع المحلي وتضمن وحدة نسيجه الاجتماعي ـ الثقافي، الأمر الذي ينمّي في كلّ مدينة أو بلدة أو قرية حسّ التواصل الإنساني في العلاقات بين فئات الشعب ويساعد، بالتالي، على انتقال المواطن من دائرة العصبية الأهلية إلى مكونات الحراك الاجتماعي والشعبي وهذه الكتلة الشعبية الواسعة إلى فضاء المجتمع المدني، حيث تغدو المواطنة القاسم المشترك على المستوى المحلي، و بالتالي على المستوى الوطني العام.

لهذا نرى، أمام كلّ ذلك، أنّ الشعب اللبناني كان ينتظر بشوق عظيم، ربما لأنها فرصة نادرة لتأكيد الذات والابتهاج، وبأهمية مشاركته ديمقراطياً في الانتخابات البلدية على قاعدة البرنامج والمحاسبة، حتى يثبت أنه قادر على الخروج من حالة البؤس التي تخيّم على الوطن العربي، بمختلف أقطاره والتكوينات والمكونات الطائفية والمذهبية فيها، وهذا الإنجاز اللبناني العظيم يعتبر فتحاً جديداً في تاريخ العمل السياسي، لهذا رأينا أنّ العملية الانتخابية جرت بأروع صور الاستقرار والهدوء والوئام من دون أن يعكّر صفوها، وإنّ المشاركة الواسعة في الاستحقاق البلدي والاختياري تؤكد إرادة الصمود والمقاومة وتحقيق الإنماء الذي يحصّن هذا الصمود، خاصة أنّ الانتخابات تجري في شهر الانتصار والمقاومة لتؤكد أنّ الشعب اللبناني بمقاومته وجيشه وصموده وانتصاره حرّر وطنه بدمائه.

لقد سجل الشعب اللبناني، بكلّ فئاته وطوائفه، وعياً وثباتاً ومواطنة صالحة من خلال مقابلته الوفاء بالوفاء، لهذا وقع أوراقه بشعلة نور لقوى المقاومة والتغيير، بتأييد مطلق للقضية الفلسطينية المكتوبة منذ العام 1948 تاريخاً لا يمكن إهماله أو إسقاطه من حيثيات الذاكرة المُتخمة بمرور الزمان، الذي يشهد على تاريخ لبنان الشقيق وشعبه الأبيّ ومقاومته المناضلة، حيث توّج بالصمود في الأرض والثبات في مواجهة العدو، وهنا يسجل لأحزاب وقوى مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي والتنظيم الشعبي الناصري والحزب الشيوعي اللبناني وقوى اليسار تناغمها مع لوائح التنمية والوفاء في الجنوب، وهذا يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الاستفتاء على شعبية المقاومة وحضورها، لا سيما في ظلّ الهجمة غير المسبوقة عليها، ما يعدّ انتصاراً لخط المقاومة والتحرير والتغيير في آن معاً.

ومن موقع التقدير والاحترام للجميع، وبالرغم من عدم المشاركة الشعبية الفعلية في الانتخابات، نؤكد أنّ الشعب اللبناني أعلن خياراته الديمقراطية بانتخاباته للمجالس البلدية والاختيارية، وهذا يستدعي العمل من أجل المرحلة المقبلة لتكون الانتخابات البلدية بالاقتراع بدلاً من التوافق بما ينسجم مع مصالح الناس، ومع مصالح اللبنانيين بشكل عام، ما يساهم في إخراج لبنان من أزماته ووضعه على سكة التعافي والتقدم والتطور.

إنّ ما جرى من ترشيح وحملة انتخابية، في بعض البلدات وانسحاب المرشحين نظراً للظروف الحساسة يؤكد أهمية مسيرة تكامل طريق التنمية مع التغيير، وهذا يستدعي للمرحلة المقبلة تهيئة الشباب والشابات، وكلّ الطاقات والكفاءات المبدعة، وكلّ المخلصين لخوض المعركة الانتخابية للمجالس البلدية والاختيارية، من خلال العمل الشعبي في الأحياء، وعلى صعيد القطاعات المهنية، وبين صفوف العمال والطلاب والنساء، للنضال معاً من أجل النهوض والدفاع عن مصالح المواطنين وللتنمية الحقيقية، وإطلاق مسيرة التحرير والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وفي ظلّ هذه الظروف أقول إنّ المنتصر في هذه المعركة هو خط التحرير والتنمية والمقاومة والقوى الديمقراطية والتغيير وفي مقدمتها لائحة صوت النّاس في صيدا، بغضّ النظر عن فشلها في تحقيق اختراق مع القوى الأخرى، لكنها نجحت من خلال حجم التصويت الذي حصلت عليه، إلا أنّ فوز لوائح التنمية والوفاء شكل خطوة مهمة وخلق حالة ديمقراطية داخل كلّ قرية ومدينة، كما أنّ قوى الديمقراطية والتغيير كانت أمام مهمة وطنية عزّزت دورها في تحالفها مع العائلات أو مع تحالف حركة أمل وحزب الله في بعض المدن والقرى ليشكل نبراساً على طريق تحقيق الديمقراطية والتغيير، وهذا يتطلب النضال من أجل قانون انتخاب عصري وديقراطي، قائم على أساس النسبية يؤمّن صحة التمثيل الحقيقي، والعمل على للوصول إلى إقرار قانون النسبية، بعيداً من كلّ القوانين القائمة على الأكثرية الإقصائية والطائفية والمذهبية، ما يستدعي تعديل أنظمة الانتخابات لتأمين صحة التمثيل.

ختاماً، لا بدّ، بعد الانتهاء من الانتخابات البلدية، أن نثمن مواقف قائد مسيرة التنمية والتحرير رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل نبيه بري في تصميمه على إنجاح هذه الانتخابات، ونؤكد أنّ أنظار اللبنانيين اليوم تتجه نحو إقرار قانون الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، فمن الطبيعي أن يفرح اللبنانيون، من خلال المشاركة في القرار في بلدهم الصغير والجميل، بعد ممارسة حقوقهم في انتخاب مجالس بلدية واختيارية في مدنهم والبلدات والقرى، حيث رسمت طريقاً جدياً من أجل تعزيز الديمقراطية وقاعدة للإنقاذ الوطني من خلال وضع آليات لتجديد العمل البلدي، وهذا يتطلب مشاركة فعّالة في اللجان المتفرّعة عن المجلس البلدي ولجنة إشراف على شؤون العمل البلدي، وهي تشكل أهمية وطنية كبرى يطمح إليها الشعب والشباب اللبناني وصولاً إلى تعزيز الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

كاتب سياسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى