هل يمكن الوثوق بروسيا؟

ناصر قنديل

– منذ بدايات ظهور ملامح تحوّل الأزمة في سورية إلى حرب، ومخاطر التدويل والدخول الخارجي بقوة على خط التصعيد وثمة تساؤلات تشكيكية بوقفة روسيا مع سورية تطلّ برأسها مع كلّ منعطف. فكما كان الكلام عن استحالة الوثوق باستخدام روسيا للفيتو في مجلس الأمن في كلّ مرة يطرح فيها مشروع قرار يستهدفها، صار الكلام عن لا جدوى هذا الفيتو أمام حجم التخندق والانخراط في الحرب الذي يبديه خصوم سورية وأعداؤها، واستبعاد أن تقدم روسيا على أبعد مما هو سياسي، وعندما بدأ ما عُرف بعاصفة السوخوي وتموضعت روسيا عسكرياً وغيّرت الكثير من وجوه الحرب في سورية، ساد الصمت قليلاً ليعود مع الإعلان عن أحكام الهدنة. وفي كلّ مرة ينطلق مع التشكيك سيل من التحليلات التي تتحدّث عن المصالح، وتقول إنّ روسيا التي تتطلع لاسترداد مكانتها الدولية المفقودة تريد من حرب سورية فرصة لتحسين وضعها التفاوضي مع الأميركيين، وعندما تصل إلى ما تريد سوف تبيع وتشتري ويتغيّر موقفها من الحرب وموقعها منها.

– حدث الشيء نفسه بحق سورية وإيران في لبنان يوم كانت المقاومة تخوض حرب تحرير الأرض من الاحتلال ويتعرّض لبنان للحروب الإسرائيلية، فوصفت حرب المقاومة بحرب التحريك لا حرب التحرير، وقيل إنها لتخديم مكانة سورية التفاوضية في مؤتمر مدريد ومفاوضاته التي انتهت بقمة الرئيس الراحل حافظ الأسد مع الرئيس الأميركي بيل كلنتون قبل تحرير الجنوب بشهر واحد، وكان أن تحرّر الجنوب ولم تتقدّم المفاوضات، وقيل في المقابل إنها حرب تعزيز موقع إيران التفاوضي في العلاقة بأميركا ولاحقاً لتخديم ملفها النووي، وصولاً إلى وصف حرب تموز 2006 بحرب بواسطة لبنان لتعزيز موقع إيران، وكانت النتيجة أنّ لبنان حرّر أرضه ورفع مكانته الرادعة بوجه العدوان الإسرائيلي فيما الملف النووي الإيراني والعلاقة الإيرانية بالغرب بقيا حتى قبل أقلّ من عام.

– في السياسة الدولية والإقليمية ليس مطلوباً أخذ التحالفات ببلاهة وسذاجة والتسليم بصدقيتها، لكن المبالغة في التشكيك تشبه البصم الأعمى بلا قراءة أو تحليل، فاليقظة المطلوبة لقراءة قواعد التحالفات بحساب المصالح معنية باستخلاص قانون صراع، وليس الوقوع في الانطباعية التي تصير تصفيقاً عند الموقف الصلب، وتصير شتائم وتخويناً عند ظهور أيّ مناورة أو مرونة، يقتضيهما منطق الصراع، ومَن ينظر لقانون علاقة سورية وإيران بالمقاومة سيكتشف أنها بالنسبة إليهما مشروع استراتيجي وليست ورقة تكتيكية ولا ورقة تفاوض، وسيكتشف أنها أحد مصادر قوتهما البنيوية وليست مجرد عامل تثقيل لمصادر القوة الأخرى، وأنه يستحيل تخيّل تضحيتهما بها أو تعريضها للأذى أو طرحها في بازارات المساومات، لدرجة يمكن القول فيها إنّ سورية إذا خيّرت بين علاقتها بالمقاومة وخطر شنّ حرب عليها فسترتضي المخاطرة بشنّ الحرب، وقد عرض عليها وارتضت شنّ الحرب، وأحد أبرز وجوه وأسباب هذه الحرب هو خيارها مع المقاومة، وأنّ إيران إذا خيّرت بين ملفها النووي الذي قيل إنها تستخدم المقاومة للفوز به، وبين المقاومة فستختار المقاومة.

– روسيا بمنطق المصلحة تحكم علاقتها بالحرب السورية ثلاثة محدّدات. الأول أنّ التغيير المراد لسورية يتمّ بواسطة مشروعين متلازمين، واحد عنوانه العثمانية التي تقودها تركيا الإخوانية، والتي إذا انتصرت في سورية تمدّدت حتى الحدود الروسية وصارت خطراً مباشراً على أمنها القومي، وثانٍ عنوانه تنظيم «القاعدة» الذي كلما تجذّر في سورية تهدّد أمن روسيا، فأمن موسكو في دمشق المعادلة التي اكشتفتها كاترين الثانية قيصر روسيا قبل أكثر من قرنين هي معادلة اليوم. والمحدّد الثاني هو إدراك روسيا أنّ معركة سورية هي معركة صياغة نظام عالمي جديد ونظام إقليمي جديد، وأنها المعنيّ الأول بكليهما، فهي الدولة التي تعتبر أنّ لديها ما يستحق أن تتبوّأ مكانة مرموقة في النظامين، وأنّ الهيمنة الأميركية التي تحاول التفرّد عليهما تواجه خصوماً شديدي البأس يمكن لهم أن يتقاسموا معها أكلاف المواجهة اللازمة لفرض حضور ودور طال انتظارها لنيلهما، وهي تعلم سلفاً أكلاف المواجهة من تهديد في الحدائق الخلفية لها من أوكرانيا وسواها إلى التلويح بالدرع الصاروخية، وخوض حرب العقوبات وحروب أسعار النفط والغاز، لكنها تدرك أنها فرصتها التي لا تتكرّر، وتدرك حجم العائدات والمترتبات التي ستنجم عن الفوز بهذه المواجهة في الاقتصاد والسياسة والمصالح الاستراتيجية الكبرى.

– أما المحدّد الثالث، فهو أنّ روسيا الساعية إلى هذا التغيير العالمي والإقليمي معنية برسم دبلوماسية جاذبة تستطيع بناء ومراكمة التحالفات ووراثة المكانة التي تحتلها أميركا في حسابات الدول على مساحة العالم، والمعادلة هي تقديم نموذج الدولة الوفية للحلفاء والمتصالحة مع معادلة الاستقلال الوطني، والمتطلعة لتحالفات المصالح المشتركة وليس الاستغلال المصلحي للحاجات الآنية، والمتعهّدة بالسعي لتعميم قواعد احترام السيادة الوطنية للدول والتصدّي لمشاريع التدخلات الخارجية وإقامة معادلة نظام دولي يحكمه القانون الدولي.

– تدرك روسيا رغم ضراوة المواجهة التي خاضتها وتخوضها على كلّ الجبهات أنها تواجه خصماً يشيخ وتخور قواه ويفقد القدرة على التدخلات والحروب، رغم كلّ العناد وحجم المقدرات، كما تدرك حجم الخطر الذي يشكله عبث واشنطن مع تنظيم «القاعدة» كآخر احتياطي تخوض به حروبها وسرعة تحوّله لعدو خطر يدق باب الغرب، كما تدرك تهالك حلفاء واشنطن وعجزهم عن تلبية مقتضيات الحرب مع تنظيم «القاعدة» كلما استفحل خطره بسبب درجة التداخل بينهم وبينه، وفي المقابل تدرك حجم بأس الحلفاء الذين يقاتلون بوجه الهيمنة الأميركية في المنطقة، وخصوصاً قوى محور المقاومة وحكومات دوله، وحجم جذريتهم في الحرب على الإرهاب، وبالتالي هي الفرصة الذهبية لخوض حرب كسر الهيمنة الأميركية ووضع واشنطن أمام خيار الحرب المباشرة، وصولاً لتأمين مخرج آمن لها من الحرب، وتثمير تنامي وتجذر الإرهاب لنقلها إلى ضفة التراكم نحو حلول سياسية تقوم على الانخراط المشترك في الحرب على الإرهاب، والانتقال إلى التقبّل القسري للتعاون مع خصوم الأمس في هذه الحرب، والتذرّع بالتسويات السياسية لتبرير هذا الانتقال. وتخوض موسكو معركتها الثابتة مع سورية وفق هذه المحدّدات والسياسات، وها هي في كلّ مرة ترتفع فيها التساؤلات حول صدقيتها، أو تزداد فيه أصوات التشكيك حول مواصلة حربها تفاجئ الجميع بنقلة أشدّ حزماً وأكثر قوة، كما حدث يوم تفاجأ الجميع بالتموضع العسكري الروسي وما عرف بعاصفة السوخوي، وكما سيحدث مع الاستعداد لجولة سوخوي ثانية بعدما اكتملت عناصر التحضير السياسي والعسكري لهذه الجولة شمال سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى