مهرجان تأبين الفتى الشهيد أبو خضير خطاب مقاومة بامتياز

راسم عبيدات – القدس المحتلة

يوم السبت الماضي أقيم مهرجان في الذكرى الأربعين لرحيل الفتى الشهيد محمد أبو خضير، في مسقط رأسه شعفاط، هذا الفتى الذي شكل استشهاده نقطة تحوّل نوعيّ في العمل الكفاحي والجماهيري والشعبي، ليس في القدس التي اشتعلت وخرجت في وداعه عن بكرة أبيها، والتي عبّرت في خروجها أيضاً عن موقفها في شكل واضح وقالت كلمتها، والقدس في الانتفاضات الشعبية لها القول الفصل: «لا خيار غير خيار المقاومة»، ولعلّ بشاعة الجريمة التي ارتكبت بحق هذا الفتى من جانب من يدّعون أنهم تعرّضوا لـ»الهولوكست» على يد النازية، والمفروض ان تكون تلك الجرائم المرتكبة في حقهم حافزاً ودافعاً لهم، لكي يحترموا القيم والمبادئ الإنسانية، وان يكونوا أكثر الناس إدانة وكرهاً وحقداً لـ وعلى الناس الذين يمارسون الظلم والطغيان، لا ان يعملوا على ممارسته وتطبيقه وفي شكل أكثر وحشية وبشاعة على من احتلوهم، وتلك كانت أبشع جريمة في العصر الحديث، لم يمارسها سوى الاحتلال والعصابات المجرمة من «داعش» وغيرها من العصابات المرتزقة والمجرمة ما يُسمّى بـ»جبهة النصرة» و»السلفية الجهادية»، حيث أقدمت مجموعة من المستوطنين الذين يقطرون حقداً وعنصرية على خطف الفتى الشهيد أبو خضير في فجر الثالث من تموز، وهو ذاهب لبيت الله من أجل الصلاة، وقد تعرّض لتعذيب شديد على يد تلك العصابة المجرمة وليحرق بعد ذلك وهو على قيد الحياة.

نعم عملية استشهاده حوّلت حالة الغضب والاحتقان المقدسي الى فعل وانفجار مقدسي عارم على شكل هبة شعبية طاولت كلّ حي وشارع وزقة في القدس، مؤذنة ببداية هبة جماهيرية شعبية متواصلة وفي شكل شبه يومي في القدس… ولتمتدّ هذه الانتفاضة لتطاول كلّ مساحة فلسطين التاريخية في الداخل الفلسطيني- 48 – وفي الضفة الغربية، وفي غزة كان الفعل من نوع آخر، كانت مقاومة ثبت بأنها لم تكن عبثية او استعراضية، بل لها أنياب وقادرة أن تفرض شروطاً ومعادلات جديدة، بديلاً من نهج المفاوضات العبثية، التي جعلتنا كفلسطينيين ندور في حلقة مفرغة طوال عشرين عاماً، حيث الاحتلال المتسلح بعقليته العنصرية والاستعلائية والإقصائية، رفض ان يقدم أية تنازلات جدية من اجل السلام، تطاول الحد الأدنى من حقوقنا وثوابتنا الوطنية، وكان يناور ويراوغ ويستخدم تلك المفاوضات، من اجل ان يستكمل خططه ومشاريعه الاستيطانية، وان يغير الوقائع والحقائق على الأرض.

جريمة حرق الطفل ابو خضير حياً، ألهبت مشاعر كل جماهير شعبنا الفلسطيني، ودقت ناقوس خطر جدي عند المقدسيين، بأن هؤلاء المستوطنين «يتغولون» و»يتوحشون» من دون رادع او حسيب، بل هناك من يحتضنهم ويشجعهم على أفعالهم وممارساتهم.

وليس هذا فحسب، فالمقدسيون باتوا على قناعة بأنّ قتلة الشهيد، لن ينالوا عقابهم، وخصوصاً أنّ عدداً من القتلة خرج من المعتقل بعد أيام عدة، ومن تبقوا منهم يجري الحديث عن اثنين منهم بأنهم قاصرون، وبالتالي سيخرجون من السجن، كما فهم من المداولات التي عقدت في محكمتهم الأسبوع الماضي، فهم ليسوا فلسطينيين، حيث عشرات القاصرين الفلسطينيين يقضون احكاماً بالسجن المؤبدة وعشرين عاماً وما فوق، على قضايا أمنية ومقاومة للإحتلال، وليس جرائم، فقاصر عن قاصر في عرف الإحتلال يفرق، قاصر فلسطيني يؤبد وصهيوني لا يمكث في السجن أشهراً؟ اما المتهم الرئيسي يجري الحديث عن عدم أهليته واتزانه النفسي، وعرضه على طبيب نفسي تمهيداً للإفراج عنه، وهناك سوابق في هذا المجال، الصهيوني المتطرف روهان احرق الحرم القدسي في آب/69، وتحت بند عدم أهليته وعدم اتزان حالته النفسية خرج من السجن مباشرة ورحل الى أستراليا.

المهم دم وجريمة قتل وحرق الفتى أبو خضير، لم توحد المقدسيين فقط، بل وحدت كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، ففي تأبينه في ذكرى الأربعين، كانت حاضرة كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، وكانت ممثلة فيه فلسطين بجغرافيتها التاريخية، وحدود موقف كل متحدثيها كانت موحدة خلف المقاومة وسقف مطالبها، موحدة بأنه لا تعايش مع المستوطنين في مدينة القدس، موحدة في أن اتفاق اوسلو سقط الى غير رجعة، بل وأكثر من ذلك فعضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي «أبا مشعل» قال: «ان استشهاد ابو خضير وبعده يمثل نقلة وخطوة لها ما بعدها في أسلوب وإدارة الصراع مع تلك العقليات التي تحكم في تل ابيب، فهذه العقليات يستحيل التعايش معها بالمطلق»، وفي السياق نفسه شدد محافظ القدس ووزيرها عدنان الحسيني «على ان الجريمة التي قتل بها الشهيد أبو خضير تعبر عن أسلوب ومنهج جائر وظالم، وهذه الجريمة ترسخ إستحالة التعايش مع الاستيطان والاحتلال والقبول به، داعياً الى إعادة النظر في كل الأولويات والقضايا للحفاظ على الوجود الفلسطيني والحرية والكرامة للمقدسيين في مدينتهم».

كما أنه لفت الى أنّ «استشهاد أبو خضير وحد الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والداخل- 48 والخارج على ضرورة الوحدة والصوت الواحد في إدارة هذا الصراع المرير، وأكد ان المرحلة المقبلة ستكون مرحلة الكرامة والعزة والنصر».

أما مفتي القدس والديار المقدسة الشيخ محمد حسين فهو الآخر ومعه المطران القومي والعروبي عطالله حنا مطران سبسطيه وسائر الأراضي المقدسة فقد عبرا عن موقف مشابه، بعد ان اكدا على عمق الترابط والوحدة والمصير بين أبناء شعبنا الفلسطيني الواحد بمسلميه ومسيحيه، وقالا: «إنّ تلك الجريمة أعادت الى الأذهان والعقول تلك الجرائم التي ارتكبتها العصابات اليهودية بحق شعبنا في النكبة الأولى… وأشارا الى ان هذه الجريمة وما لحقها من جرائم اخرى في قطاع غزة ثبتت ورسخت وأعادت ثوابت شعبنا الفلسطيني الذي صمم على أمرين النصر او الشهادة، وكذلك قالا بأنّ تلك الجرائم أعادت للمقدسيين بوصلتهم ورتبت لهم اولوياتهم نحو القدس.

والمواقف والكلمات نفسها اكد عليها القائد الوطني عبداللطيف غيث وعضو الكنيست العربي احمد الطيبي والنائب عن المجلس التشريعي جهاد أبو زنيد والصحافي يونس العموري، حيث اكدوا ضرورة توحد الفلسطينيين وعدم العودة الى مربع المفاوضات العبثية، وضرورة محاكمة القتلة والمجرمين من المستوطنين امام المحاكم الدولية على جرائمهم، وكذلك دعوا السلطة الفلسطينية الى ضرورة وقف سياسة التنسيق الأمني.

ما سمعناه من كل المتحدثين بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم الفكرية والسياسية للمرة الأولى منذ زمن بعيد، كان خطاباً فلسطينياً وحدوياً بامتياز ومقاوماً بامتياز أيضاً، لم نسمع عن المفاوضات العبثية، بل سمعنا بأن هذا الخيار سقط وحل محله خيار ونهج المقاومة.

دماء الشهيد أبو خضير ودماء شهداء شعبنا في القطاع المقاوم وفي الضفة الغربية والداخل الفلسطيني وحدتنا، وأخرجتنا من حالة التيه والضياع، وأعادت إلينا بوصلتنا ووجهتنا نحو القدس والعزة والكرامة على طريق الحرية والاستقلال، وكذلك هي مقاومتنا المظفرة في القطاع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى