إلى متى سيتحمّل الروس استفزازات الأميركيين… لمحة تاريخية وسيناريوات متوقعة؟

هشام الهبيشان

رغم بعض الحديث والتحليل المتفائل الذي يبديه البعض بخصوص نشوء حالة من التقارب بين الروس والأميركان، ولكن الواقع المؤكد في هذه المرحلة انّ كلا الدولتين الروسية والأميركية تعيشان الآن في حالة حرب سياسية ساخنة جداً قد تتطوّر مستقبلاً الى صدام عسكري غير مباشر، وعلى الأغلب سيكون مسرح هذا التصادم العسكري الأراضي الشرق أوكرانية الانفصالية وتحديداً من مدينتي دونيتسك ولوغانسك، او منطقة شرق المتوسط، وهذا ما بدا واضحاً أخيراً، من خلال مؤشرات تؤكد توسع رقعة الدرع الصاروخية الأميركية الى مناطق جديدة في شرق اوروبا، «رومانيا وما بعد رومانيا»، والاستفزازات الأميركية للروس من خلال القيام بمناورات عسكرية مشتركة بين الجورجيين والأميركان، وهنا بدا واضحاً مدى اتساع رقعة الخلاف والتصعيد بين موسكو من جهة، وبين واشنطن وحلفائها الغرب اوروبيين من جهة اخرى حول الملف الأوكراني تحديداً ومجمل ملفات المنطقة والعالم ككل.

ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية من استفزازات للروس، تؤكد بانّ الروس في هذه المرحلة تحديداً، وأكثر من ايّ وقت مضى، أصبحوا بشكل أكثر واقعية تحت مرمى وتهديد مشروع أميركا وحلفائها، فهم اليوم باتوا بين مطرقة الدرع الصاروخية الأميركية التي باتت بحكم الواقع قريبة من الحدود الروسية، وتشكل خطراً محدقاً بأمن المنظومة العسكرية الروسية، وخطر خسارة أوكرانيا لصالح الغرب، واحتمال فقدها لكثير من مناطق نفوذها في الشرق الأقصى والشرق الأوروبي، وكذلك في الشرق العربي، وسندان تقويض جهودها التوسعية والوصول الى مناطق ومراكز نفوذ جديدة والاستغناء عن مراكز نفوذها القديمة لصالح القطب الأوحد الأميركي والانكفاء على نفسها، وليس بعيداً عن كلّ ذلك الملف السوري وغيره من الملفات، وخصوصاً الثروات الطبيعية وملفات حقول الطاقة في الدول التي تتحالف مع الروس الثروات الطبيعية الإيرانية كمثال ، ومن جهة أخرى يدرك الروس حجم المؤامرة الأميركية، والتي أفرزت ما يسمّى «بحرب النفط»، والتي تستهدف إركاع القوة الروسية، والحدّ من تصاعد النفوذ الإيراني في الاقليم العربي.

الصراع على أوكرانيا!

من إفرازات هذه الضغوط والتحديات التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها على موسكو، خطر فقدان موسكو ورقة قوة لصالح الغرب وهي أوكرانيا، فاليوم هناك تأكيدات على استعداد روسي لعملية عسكرية مفاجئة داخل أوكرانيا في أيّ وقت تقدّم فيه القوات الأوكرانية مدعومة بقوة غربية باقتحام مدينتي دونيتسك ولوغانسك، شرقي أوكرانيا واللتين تقعان تحت سيطرة معارضين للحكومة الأوكرانية، وبنفس الوقت هناك تأكيدات من قبل قادة ما يسمّى «حلف الناتو» على عدم السماح لروسيا بالدخول إلى أيّ جزء من أوكرانيا وفق تعبيرهم، وهذا ما أكده هولاند وميركل وكاميرون، وأكد عليه باراك أوباما أيضاً، فقد قدّم الرئيس الأميركي ضمانات للرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو على انّ الغرب لن يسمح للروس باستباحة أرض أوكرانيا، بحسب تعبيره، ولو كان الثمن لذلك هو الدخول في حرب مفتوحة وشاملة مع الروس.

هنا سنقرأ مدى خشية واشنطن من تمدّد وتوسّع رقعة النفوذ الروسي إقليمياً ودولياً على المصالح الأميركية، وهذا ما دفع واشنطن الى الرمي بكلّ ثقلها على محاولة تقويض الجهود الروسية في التوسع في تحالفاتها واتساع مراكز القوة والنفوذ شرقاً وشمالاً، مما قد يعرّض مراكز النفوذ الأميركية في هذه المناطق الى خطر الزوال من هذه المناطق، ولذلك تحاول واشنطن ان تضع موسكو بين خيارين إما أن توقف توسعها وتمدّد مراكز نفوذها في العالم، او أن تتلقى ضربات موجعة في عمق الداخل الروسي وتحديداً من الجمهوريات التي تحسب على انتمائها الروحي والولاء المطلق لموسكو، مثل أوكرانيا والشيشان المضطربة أمنياً.

ما الذي دفع الدب الروسي للتكشير عن أنيابه عام 2008؟

والسؤال هنا هو: هل ستسمح روسيا لأميركا بأن تملي عليها شروطا كهذه؟ وخصوصاً بعد الضربة القاسية لروسيا بعد خسارتها أوكرانيا لصالح الغرب، فاليوم الروس يواجهون مشروعاً غربياً الهدف منه تقويض الجهود الروسية في الوصول الى مراكز قوى جديدة ومناطق نفوذ أوسع تحقق لهم قوة معتبرة على الصعد السياسية، لتكرّس عودتها إلى صفوف القوى الأكبر دولياً والمؤثرة أكثر من ايّ وقت مضى في صناعة القرار الدولي.

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي وانقسام جمهوريات الاتحاد الى كانتونات متفرقة ومع تعدّد انتماءاتها وولاءاتها، أصبح الغرب يتطلع أكثر فأكثر الى كسب هذه الجمهوريات الى صفه لتكون ورقة ضغط على الروس في ايّ تسويات دولية مقبلة لتقاسم مراكز القوة والنفوذ والثروات في العالم، وحينما أدرك الروس انّ الغرب تمادى أكثر وأكثر بهذه الممارسات الاستفزازية، وبدأ الحديث عن نظام الدرع الصاروخية المنصوب شرقاً وعلى مقربة من الدولة الروسية في بعض الجمهوريات التي كانت تحسب عليه وفي حلفها واتحادها السابق، وهو الاتحاد السوفياتي، وفي بعض جمهوريات الشرق الأوروبي وبعض دول الشرق الآسيوي، حينها أيقن الروس وأخذوا القرار بأنّ عليهم التكشير عن أنيابهم أمام هذه الغزوة الكبرى والتهديد المحدق بهم.

هل وصلت الرسالة بعد حرب جورجيا 2008؟

في مطلع شهر آب من عام 2008 قامت القوات الجورجية بهجوم عسكري من جورجيا على مقاطعتي أبخازيا وجنوب أوسيتيا المواليتين للروس، وبعدها قامت القوات الروسية بهجوم مضادّ سريع وعنيف على جورجيا لتحسم المعركة في وقت قصير جداً، ويعلم جميع المتابعين لخفايا ما وراء الكواليس انّ الروس لم يقرّروا الولوج في معركة جورجيا إلا لإيصال رسائلهم الواضحة للغرب وأميركا، وحينها وصلت الرسالة وبدأت هذه الدول وخصوصاً أميركا بإعادة دراسة سياستها الخارجية اتجاه روسيا بعد حرب جورجيا، بعدما وصلتهم الرسالة الروسية شديدة اللهجة والإنذار الأخير لهذه الدول بانّ روسيا ستردّ على كلّ من يهدّد أمنها ومراكز نفوذها، فمنذ تلك الواقعة نرى الموقف الغربي في تشدّد أحياناً اتجاه روسيا ببعض قضايا دولية وبتوافق في أحيان أخرى وبخلاف سياسي في بضع حالات، مع العلم انّ هناك مجموعة من الخلافات حصلت بعد حرب جورجيا، خلافات دبلوماسية أحياناً واقتصادية أحياناً أخرى وأمنية في أحيان ثالثة، وتشابك وتعقيدات في بعض الملفات مثل ملف ايران النووي وكوريا الشمالية وأفغانستان وغيرها من الملفات.

هل حاولت واشنطن محاصرة موسكو بـ«الربيع العربي»؟

في مطلع عام 2011، انطلق ما يسمّى «الربيع العربي»، وبدأت هنا مرحلة جديدة، فمراكز النفوذ بدأت بالتحوّل ومراكز القوى تغيّرت، وهنا قرّر الغرب انه يجب إعادة تقسيم الكعكة العربية، ومن هنا انطلقت أولى هذه الخلافات حول «الربيع العربي» وتوزيع مراكز القوى فيه، بين الغرب وروسيا، واولى هذه الخلافات كانت في ليبيا وعندها طعنت دول الغرب روسيا بالظهر في ملف ليبيا، وحينها خسر الدب الروسي مركز نفوذ في المغرب العربي وشمال أفريقيا كان يشكل عامل أمان للروس وقوة في هذه القارة ومعبر أمان للدولة الروسية للاتساع والولوج أكثر بعلاقاتها مع باقي دول المغرب العربي وشمال افريقيا وشرقها، فبعدما أدرك الروس انهم طعنوا من دول الغرب أدركوا انّ هناك مؤامرة كبرى تستهدف مراكز نفوذهم في المنطقة العربية.

وعندما اتسع نطاق هذا «الربيع العربي» ووصل الى سورية برزت الى الاحداث «الورقة السورية» وهنا استمات الروس في الدفاع السياسي والإمداد اللوجستي العسكري والاقتصادي للدولة العربية السورية وجيشها العربي، ومن مبدأ أنها إذا خسرت سورية فإنها ستخسر نفوذها وقاعدتها الأخيره وحلفها الأخير مع دول المشرق العربي، فهي بسورية تسير في خط ونهج مستقيم غير قابل للتشكيك، لأنها تدافع عن نفسها اليوم من سورية، فإذا سقطت سورية فالروس يدركون انّ الهدف القادم للغرب ولو تدريجياً سيكون روسيا، ولذلك هم اليوم يستميتون للدفاع عن سورية، فساسة وجنرالات موسكو يؤكدون بمواقفهم انهم يسيرون في خط ونهج مستقيم غير قابل للتشكيك، ومن مبدأ انّ موسكو تدافع عن نفسها اليوم من دمشق فإذا سقطت دمشق ستكون موسكو هي الهدف التالي…

هل خسر الروس الورقة الأوكرانية؟

البعض يعتقد أنّ الروس كسبوا عندما انفصلت شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا او أنّ الروس سيكسبون ايضاً إذا أعلنت بعض مناطق الشرق الأوكراني انفصالها عن أوكرانيا، وهذا الموضوع بالذات هو خسارة كبيره لروسيا والروس أنفسهم يدركون ذلك، فهم خسروا ما كان بالامس يُحسب بالمطلق عليهم وربحوا اليوم جزءاً مما كان بالأمس يحسب عليهم، فهم خسروا تقريباً الكلّ واستطاعوا ان يعيدوا جزءاً من الكلّ، وهذا بتحليل وقراءة الجغرافيا السياسية وبعلم السياسة الدولية هو خسارة سياسية وأمنية فادحة بالنسبة للروس، فاليوم هم أصبحوا شبه محاصرين، فمن الشرق والشمال نصبت الدرع الصاروخية الأميركية، والجنوب والغرب بدا تدريجياً يخرج عن نفوذهم، والرئيس بوتين نفسه يدرك حقيقة هذه الأخطار.

ختاماً، ما التكهنات المستقبلية المتوقعة للردّ الروسي على واشنطن وحلفائها؟

السؤال الآن هل ترضخ روسيا أمام كلّ هذه الضغوط، التي تفرضها عليها واشنطن وحلفاؤها اقتصادياً وامنياً وسياسياً، ام انّ الدب الروسي سيكشر عن أنيابه من جديد ليعيد الكرة الى الملعب الأول عن طريق الولوج في معركة غير مباشرة مع واشنطن تكون بدايتها من دونيتسك ولوغانسك، والهدف من هذا العمل العسكري «المتوقع هو إيصال رسائل موسكو مجدّداً للغرب وحلفائه بأنّ الروس موجودون ولن يتنازلوا، بل سيستمرّون بالتوسع في كلّ الاتجاهات، ام اننا سوف نرى انكفاء روسيا واعادة تموضع لروسيا لإعادة ترتيب أوراقها من جديد، وخصوصاً في الداخل الروسي الذي بدأت ملامح رياح الغرب وفتنتهم السامة تحرك بعض من فيه للمطالبة للانفصال عن الجمهورية الاتحادية الروسية، وهنا سنترك كلّ هذه التكهّنات للآتي من الأيام لتجيبنا عليها وتعطينا صورة أوضح لملامح وشكل موازين القوى بالعالم الجديد التي يتمّ صنع موازين القوى ومراكز النفوذ فيه من جديد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى