مزاج الناس وقرارهم… ازدراء المسؤولين وإجراء الانتخابات على أساس النسبية
د. عصام نعمان
في غمرة الانتخابات البلدية تفجّر مزاج الناس وانحسم قرارهم. مزاجهم ازدراء بالقيادات السياسية التقليدية وأدواتها الفاشلة لامس حدود القرف. ما عاد بمقدورهم احتمال بلادة المسؤولين وعجزهم. اليأس منهم قادهم إلى تفضيل نقيضهم، أحياناً، مع علمهم أنهم ليسوا بالضرورة أفضل منهم. أليس هذا ما حدث في طرابلس؟
قرار الناس بغالبيتهم الساحقة بات محسوماً: إجراء انتخابات نيابية على أساس النسبية. هم مارسوها، سلباً، بقدر ما تتيحه أحكام قانون الانتخاب النافذ. فقد حرموا الزعماء التقليديين امتياز حصد جميع المقاعد في دوائر البلديات الكبرى بفارق أصوات معدودة تُشترى غالباً بمال سياسي أو تُقتنص بعصبية وتعصّب طائفيين أو مذهبيين.
لعلّ الحقيقة الأكثر سطوعاً التي تكشّفت عنها الانتخابات البلدية افتضاحُ الأزمة المتفاقمة بكلّ أبعادها وعجز المسؤولون المكابرون في التغطية عليها. بات واضحاً أنّ لبنان يعاني اليوم أزمة متفاقمة أسهمت في تأجيجها وتعقيدها عوامل متعدّدة داخلية وخارجية، لعلّ أسوأها فشل مدوٍّ في إدارة التنوّع اللبناني، وفي معالجة الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تجلّى في شغور رئاسة الجمهورية، وعجز مجلس النواب الممدّدة ولايته عن التشريع، وانقسام الحكومة على نفسها ما تسبّب بانعدام القرار، وشلل الإدارات والمؤسسات الرسمية ومرافق الخدمات العامة، وتواتر الاضطرابات الأمنية واندلاع أزمات الكهرباء والنفايات والانترنت. كلّ ذلك في زمن تتهدّد لبنان ثلاثة أخطار استراتيجية: إسرائيل العنصرية التوسعية، والإرهاب التكفيري وتنظيمات العنف الأعمى، وعصبيات مذهبية متفلّتة من عقالها في غمرة قصور فاضح في أداء القيادات المتسلّطة والمتناحرة.
إذْ يتضح أن لا جدوى من انتظار تدخل قوى خارجية لمصلحة أيٍّ من الأطراف المتصارعة لانشغالها بأزمات افتعلتها بنفسها، محلياً وإقليمياً ودولياً، كما لا جدوى من اللجوء إلى الآليات والأدوات والأساليب نفسها للخروج من الأزمة طالما أنها ستفرز القيادات الفاشلة والنتائج السياسية نفسها، فقد بات محكوماً على اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، أن يواجهوا الظروف والتحديات الاستثنائية بقرارات استثنائية وبقيادات نهضوية ملتزمة استحقاقات الإنقاذ والتغيير وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
نعم، اللبنانيون مدعوون إلى الاتحاد في طلب الحرية والكرامة وإلى تنظيم صفوفهم للضغط على أهل سلطة العجز والقيادات التقليدية المتسلطة من أجل اعتماد قانون ديمقراطي للانتخابات على أساس النسبية وإجراء انتخابات حرة بموجبه تكون، بحدّ ذاتها، مخرجاً من حال الأزمة والمحنة، ومدخلاً لتكوين سلطة تشريعية من نواب شرعيين ومؤهلين لانتخاب رئيس الجمهورية، ولتأليف حكومة إنقاذ وطني، وإجراء تعيينات أمنية وإدارية مستحقة، ولإعادة تأسيس لبنان دولةً ووطناً.
نعم، ذلك يتحقّق بإطلاق حملة جماهيرية واسعة شعارها «الشعب يريد تطبيق الدستور»، وإزاحة سلطة العجز التي يمدّد أهلها ولايتهم لأنفسهم بأنفسهم، والضغط بكلّ الوسائل المتاحة والاستثنائية لحمل مجلس النواب على إقرار قانونٍ للانتخابات على أساس التمثيل النسبي في دائرة وطنية واحدة على مستوى البلاد كلها، وإجراء الانتخابات، تالياً، بالسرعة الممكنة كي يُصار بنتيجتها إلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وتأليف حكومة وطنية جامعة تتولى، كأولوية أولى، وضع التشريعـات الضروريـة لتنفيذ أحكام الدستور، ولا سيما المواد 22 و 27 و 95 منه ليُصار، بعد نفاذها، إلى انتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لاطائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف، ومباشرة إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية محورها التأسيس لبناء دولة مدنية ديمقراطية.
نعم، يقتضي دعوة قادة القوى الشعبية والسياسية الناهضة بالحملة الجماهيرية إلى مواجهة امتناع أهل السلطة ومجلس النواب عن استجابة المطالب الإصلاحية المستحقة والمستعجلَة باللجوء إلى تدابير استثنائية قوامها تكوين مؤتمر وطني جامع يتولى وضع نظام للانتخابات على الأسس المنوّه بها آنفاً وبإجرائها وفق أحكامه باستقلال عن أجهزة السلطة الرسمية المعطلة أصلاً أو المشلولة. وليس من شك في أنّ أهل سلطة العجز عاجزون قطعاً عن منع إجرائها، لا سيما أنّ الانتخابات المرتجاة هي أقرب ما تكون إلى استطلاع عام تجريه القوى الوطنية الحيّة ومنظمات المجتمع المدني، بلا استفزاز ولا معاداة لأيّ جهة سياسية. وفي هذا السياق، يمكن تشريع التغيير الحاصل بأن يُعتبر المرشحون الفائزون في انتخابات «المجتمع المدني» برلماناً انتقالياً لمباشرة العملية الإصلاحية الجذرية باتجاه بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
نعم، تجب المبادرة إلى ممارسة هذا التمرين الساطع في الديمقراطية المباشرة ليكون إنجازاً نموذجياً لشعب لبنان وقدوة لكلّ شعب عربي يتوق إلى تقرير مصيره وأولويات حياته بنفسه.