زلزال ريفي الانتخابي: ثنائية سنية أم بداية أفول الحريرية؟

علي بدر الدين

يخطئ من يعتقد أو يرى أنّ الانتخابات البلدية والاختيارية لم تحدث خرقاً أو فرقاً أو تغييراً ليس فقط في النتائج التي حققتها القوى السياسية والطائفية والمذهبية على مستوى الأرقام والأحجام، بل على مستوى التحالفات السياسية والانتخابية المعروفة سلفاً أو المستجدة التي فرضتها استثنائية المعارك الانتخابية في غير منطقة وقد سبقتها مؤشرات ميدانية توحي بمعارك كسر عظم قد تدك جدار التحالفات الفسيفسائية التي أرادت خداع الناخبين بتقديم جرعات من التوافق الوهمي أو المصلحي في مواجهة ما هو آت من أزقة وزواريب الأحقاد المتراكمة والغرائز المشبعة ثأراً طائفياً ومذهبياً والمتفلّتة من عقالها وضوابطها، وقد حان بالنسبة لها زمن الانتقام من قيادات وزعامات تخلت عنها في لحظات التأزّم والحروب والملاحقة، ووجدت ضالتها في الخطاب السياسي والانتخابي الفئوي التحريضي ما سهّل عليها مهامها الانتقامية المكبوتة لتنفجر غضباً ورفضاً لكلّ نهج سياسي اعتدالي أو لأيّ صوت ينادي بالوحدة الوطنية والعيش المشترك، وإن كانت مجرد عناوين وشعارات فضفاضة لا تُصرف في بازارات السياسة والمال والتشنّج والتطرف المشغول عليه بإتقان من قوى إقليمية ومحلية، فوجدت فرصتها لتفرض نفسها على الساحة الداخلية وتحديداً الشمالية، وقد نجحت في قلب الطاولة على تحالف انتخابي اقتضته ظروف الاستحقاق وعلى حلفاء البيت السياسي الواحد. بعد أن تحوّلوا قبل الانتخابات إلى خصوم من الواجب كسر هيبتهم وهزيمتهم.

ومن الواضح أنّ نتائج الانتخابات البلدية في طرابلس والشمال ستخلق واقعاً سياسياً جديداً، تتجاوز أبعاده النطاق الجغرافي الذي حدث فيه التغيير السلبي بالمفهوم الوطني العام، فضلاً عن تداعياته داخل الطائفة السنية في لبنان مع أنه من المنطق الطائفي المذهبي السائد البغيض والمرفوض، ولكنه للأسف موجود ومؤثر وتبنى عليه السياسات والاستراتيجيات لدى مختلف الطوائف والمذاهب وتحديداً على مستوى الزعامات والمرجعيات السنية السياسية في لبنان، وباتت الحاجة وفق الساعين إلى هذا التغيير في البيئة الحاضنة داخلياً وخارجياً إلى ثنائية زعائمية داخل الطائفة على شاكلة الثنائيات الشيعية والمسيحية والدرزية في لبنان «وما حدا أحسن من حدا».

الحكم على مدى نجاح هذه النقلة المذهبية الحزبية ربما تحتاج إلى وقت وقراءة متأنية لفهم الأبعاد والخلفيات مع أنّ اللبنانيين اعتادوا على القفزات الهوائية والاستعراضات السياسية والطائفية وعلى «بوالين» الاختبار وفقاقيع الصابون، والثابت هو النزوع السعودي إلى هذه الثنائية أو إلى الزعامة البديلة في ظلّ التصويب على سعد الحريري والضعف الذي يصيب تياره وتراجع زعامته وجفاف شركاته داخل المملكة…

هذه المروحة التغييرية الواسعة التي تقودها السعودية على مستوى الطائفة السنية الكريمة وتيار المستقبل ويتصدّر واجهتها السياسية والإعلامية السفير علي عواض عسيري في لبنان تؤشر ربما إلى نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى، ولكن نجاحها ليس مضموناً لغاية الآن، بحيث إنّ ارتداداتها بدأت تضرب بمفاصل العلاقة مع السعودية ودورها التاريخي في جرّ تيار المستقبل إلى غير الوجهة التي يريدها، وفق ما عبّر عنه أو أوحى به وزير الداخلية نهاد المشنوق في إطار ردود الفعل المتوقعة والتي سترتفع وتيرتها داخل الطائفة وحوّلها حتى تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود لكلّ فريق، وقد فتحت الطريق أمام سياسة عضّ الأصابع وتحديد الخيارات وقد تحتاج إلى وقت من النقاش والسجال وكشف المستور المعلوم قبل أن يتوضّح المشهد وتؤمّن الغلبة لفريق على الآخر.

في المقلب الآخر لا يمكن نفي أو إلغاء وجود قوى سياسية حزبية وطوائفية أو مذهبية تحاول أن تجد لها موقعاً في مواجهة الثنائيات المتباعدة سياسياً والمتآلفة والمتحالفة انتخابياً لأنّ المصالح المشتركة تقتضي مثل هذه التحالفات التي شهدت اهتزازاً وخرقاً في كثير من المواقع والمناطق. وحكماً ستظهر نتائجها التغييرية في المقبل من الأيام، وسيؤسّس عليها مسار الاستحقاقات المقبلة وفي مقدّمها الانتخابات النيابية الموعودة «كوعد إبليس في الجنة»، لأنه ليس في الأفق ما يؤشر إلى أنّ هذه الانتخابات حاصلة في موعدها رغم إسقاط الذريعة الأمنية، لأنّ المشكلة الأساس هي في العقلية السياسية المقفلة للطبقة السياسية الحاكمة التي ترفض الاحتكام إلى قانون انتخابي نسبي وتمثيلي، لأنّ سقوطها السياسي المدوّي يكمن في مثل هذا القانون المطلوب علناً من هذه الطبقة والمرفوض ضمناً وبإصرار. وهذا ما يظهر بوضوح داخل اللجان النيابية المشتركة التي يتصارع فيها ممثلو السلطة ومكوّناتها السياسية والطائفية المذهبية على فائدة هذه الطائفة أو تلك المنطقة أو ذاك الزعيم من أيّ قانون، وهل تفصيله سيكون على القياس المعهود والمتبع منذ نشوء وتكوّن النظام السياسي والطائفي الفاسد ولتاريخه لم تقبل القوى السياسية المستبدّة بأيّ قانون من 17 مشروعاً متنوّعاً يكثر الحديث عنها في وسائل الإعلام من دون أن يعرف اللبنانيون تفاصيل هذه المشاريع والاقتراحات. فماذا مثلاً عن المختلط وعن قانون نجيب ميقاتي، وعن النسبي على مستوى المحافظة أو الدائرة، وماذا عن الأرثوذكسي وكأن الشعب اللبناني يقيم في جزيرة منعزلة عن السياسيين المتحكمين، وما عليهم سوى دق جرس الاصطفافات لتلتحق كلّ مجموعة بقطيعها ورفع شارات الاستسلام والطاعة العمياء.

الانجرار الشعبي خلف الأوهام السلطوية والمالية والزعائمية والطوائفية والسياسية بأشكالها المختلفة دحضته الانتخابات البلدية والاختيارية التي أحدثت نتائجها وإنْ كانت متواضعة في مناطق ومقبولة في أخرى، لكنها أعلنت بالفم الملآن أنّ عصراً سياسياً وطنياً سيولد من رحم الظلم والمعاناة والاستئثار وأنّ هناك مشروعاً وطنياً بدأ بالتبلور كمقدّمة لا بدّ منها في مسيرة التغيير الآتية، وأنّ السلطة السياسية باتت على قاب قوسين من التحوّل الانحداري رغم محاولات إظهار قوتها في هذه الانتخابات التي فرضت عليها التراصف في بنيان مرصوص ومحكم للإبقاء على سياسة الإلغاء والتفرّد، وأنّ دخاناً أبيض بدأ بالتصاعد من تراكمات الأداء السياسي الأسود الذي لم يترك للصلح والحوار والانفتاح والعدالة والحرية مسرّباً أو متنفساً، ويبدو أنه حان الأوان وإنْ ببطء لتتدحرج كرة النار لتحرق اليابس من دون الأخضر المتوقع، وإنْ طال الزمن أو قصر، لأنّ في لبنان قوى وطنية حية لها حيثياتها النضالية ولا يمكن أن تقف على الحياد أو مكتوفة الأيدي أمام المدّ السياسي الطائفي المذهبي المصلحي الإلغائي لقوى السلطة وللطبقة السياسية المستأثرة والمحتكرة والقابضة على مقدرات البلاد والعباد منذ ما قبل الاستقلال ولم يقدر أحد على كسر شوكتها وتسلطها رغم شرف المحاولات التي باءت بالفشل وزادت من شراستها في مواجهة اللبنانيين فهل ينجح رهان التغيير على قاعدة الثقب الذي أحدثته انتفاضة الانتخابات البلدية في مركب هذه الطبقة ويشكل بداية الغرق والتحوّل؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى