بقايا الماضي… أم طلائع المستقبل
معن بشّور
مهداة إلى أبطال المقاومة في ذكرى الانتصار على العدوان
في يوم من أيام حزيران 1992، وكان كل شيء في المنطقة يشي بتردي الأوضاع بدءاً من حرب الخليج الأولى التي أحدثت انقساماً مدوياً في الصف العربي، وأدت إلى تدمير بلد بحجم العراق ووضع شعبه تحت الحصار، وتمكنت الإدارة الأميركية أن تفرض على الدول العربية المشاركة في مؤتمر مدريد لتسوية نهائية للصراع مع العدو الصهيوني وأن تفرض على منظمة التحرير الفلسطينية أن تشارك في ذلك المؤتمر من خلال الوفد الأردني.
في ذلك اليوم زار وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدكتور علي أكبر ولايتي لبنان وسط تسريبات إعلامية تفيد أن أحد أهم أسباب الزيارة هي «ضبضبة» حزب الله في لبنان بهدف التكيف مع الجو السائد في المنطقة، والتقى الوزير آنذاك الذي أصبح مستشاراً لمرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي ممثلي القوى الوطنية والإسلامية اللبنانية وكان بينهم السيد حسن نصر الله المنتخب حديثاً أميناً عاماً لحزب الله ، وكذلك «الوزير» نبيه بري، لم يكن قد انتخب بعد رئيساً للمجلس النيابي، والوزير وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، والأمناء العامون لأحزاب وتنظيمات وطنية وقومية ويسارية بات أكثرهم في ما بعد نائباً أو وزيراً.
لم أستطع في ذلك الاجتماع أن أخفي قلقي ومخاوفي مما كنت اسمعه وأقرأه، بل كنت أريد تبديدهما بشكل نهائي فقلت للوزير ولايتي:
«لقد قرأنا وسمعنا أن لزيارتكم علاقة بإقناع حزب الله بالتخلي عن المقاومة والانخراط في العمل السياسي اللبناني، وبغض النظر عما سمعت وقرأت، وعلى رغم أنه ليست لي علاقة بحزب الله وقادته آنذاك، بل ربما كان نشاطي «القومي العربي» مثيراً للشكوك والريبة آنذاك في بعض أوساط الحزب، لكنني أود أن أقول للذين يقولون لكم إن المقاومة في لبنان هي من بقايا مرحلة انتهت، أن حزب الله ومقاومته هما من طلائع المستقبل الذي ستتغير على يدها معادلات وتسقط أوهاماً ويندحر الاحتلال».
لمحت يومها بعض الاستغراب في وجه الدكتور ولايتي، والاندهاش في عيون كثير من الحاضرين الذين فوجئوا بهذا الكلام، وفوجئوا أكثر بصدوره عمن يعتقدون أنه يقف في مكان بعيد فكرياً وسياسياً عن حزب الله.
لكنني استطردت قائلاً:» نعم يا معالي الوزير، ندرك أن الظروف التي نمر بها ظروف صعبة وقاسية، وأن قطار التسوية هو القطار الوحيد في المنطقة، وأن من لا يركب فيه يصبح خارج المعادلة، بل خارج المنطقة بأسرها، لكنني أعتقد أن بإمكاننا أن نقلب الطاولة على المعسكر الأميركي الصهيوني عبر بناء جبهة شرقية منيعة ممتدة من الناقورة في جنوب لبنان حتى طهران في قلب إيران مروراً بدمشق وبغداد، متجاوزين كل خلاف أو تناقض أو تناحر من أجل حشد الطاقات لمواجهة عدو الأمة كلها».
وبعد الجلسة، حرص الدكتور ولايتي أن ينفرد بي على هامش الاستراحة لكي يعرف مني أكثر عن أسباب قلقي، وعن آفاق رؤيتي، وقال لي يومها بصوته الهادئ: «اطمئن، فمقاومة المشروع الصهيوني بالنسبة لنا هي مسألة عقائدية، ووحدة الإقليم هي إحدى أبرز غاياتنا وعناوين استراتيجيتنا».
حين أذكر اليوم وقائع تلك الجلسة الهامة أدرك بالطبع أن التزام الجمهورية الإسلامية بالمقاومة اللبنانية، كما بالمقاومة الفلسطينية، لم يكن بسبب ملاحظاتي المتواضعة، ولكن لكي ندرك اليوم جميعاً، ونحن نرى تموز الفلسطيني يعانق تموز اللبناني، أن التناوب في المواجهة بين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بل بينهما وبين المقاومة العراقية للاحتلال، وكل مقاومة عربية وإسلامية ، سيبقى على رغم كل الصعوبات والمؤامرات والتضحيات هو عنوان مرحلة ليست المقاومة فيها من بقايا ماضٍ، بل هي استمرار لتصميم نعتز به وندخل من خلال المقاومة إلى رحاب العصر والمستقبل في آن.
في العيد الثامن لانتصار لبنان المقاوم شعباً ورئيساً ومقاومة وجيشاً ، وفي خضم انتصار جديد يخرج من رحم البطولات والتضحيات في غزة، نتطلع إلى وعي عربي متجدد يرفض أن ينزلق أهله إلى مهاوي الاحتراب والتعصب والتمذهب والتوحش ويسقطون في مزالق الابتعاد عن أولوية مواجهة العدو الرئيسي للأمة.
في هذا العيد يحق لنا أن نستمد من وهج النصر في تموز 2006 حكمة نراجع معها مساراتنا جميعاً، وأن نمتلك كلنا شجاعة نتخلص بها من أخطاء وإساءة تقدير وقعنا بهما، ومن أي حساسيات فئوية أو ذاتية أغرقت بعضنا أحياناً، فننتصر على أخطائنا وأمراضنا تماماً، كما انتصرنا على أعدائنا ومحتلي أرضنا.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية