سورياي
فادي عبّود
كم هي جريحة سورياي اليوم، كم تنزف بعمق تاريخاً ودماً، وكم تلفظ من بين أنفاسها، صرخات الاستغاثة واللوعة، لأمة تتمزّق وقد كان قدرها أن تكون شعلة الحضارة إلى العالم، تحترق ومنها انطلقت شعلة النور والحضارة.
غير أن سورياي غير قادرة على الموت، بل على التجدد والانبعاث، فمن رحم آلامها تلد دائماً الأفكار الجديدة التي ستطبع البشرية كما كانت دائماً.
فيا سورياي الجريحة، سيأتي اليوم الذي ستنفضين فيه قذارة الجهل والتعصب والحقد. ستثورين يا جميلتي كما تعوّدت دائماً لتزرعي أسساً جديدة إنْ فعلت لَغيَّرت وجه التاريخ، وستكتبين بدماء الشهداء الذين سقطوا، وصرخات الأطفال الذين مزقتهم قباحة الحقد الأعمى، رواية جديدة لعصر جديد وجيل جديد.
أحاول اليوم أن أستشرف أيامك المقبلة يا سورياي الجميلة،
فأتخيّلك موطأ التقدم والمعرفة والقوة والحق والجمال.
أحاول أن أتخيّلك من دون مسيحييك، ولكنني أجدك من دون رجاء ومن دون محبة وانفتاح. تاريخك مزوّر كمن يخجل من تاريخه.
أحاول أن أتخيلك من دون موحّديك فأراك خائبة ينقصك شموخ وكرم. تنقصك الحكمة وكانت جبالاً فأصبحت سهولاً.
أحاول أن أتخيّلك من دون شيعتك وعلوييك، من دون الوفاء والكرامة، ومن دون سماع «هيهات منّا الذلة»، من دون مقاومة وإيمان أوَليست كربلاء حدثت على أرضك؟
وهل يمكنني أن أتخيّلك من دون روحك وأهل السنة انطلقوا من باطنك عولموا الإسلام ومأسسوه من عقلك.
تجتمع فيك الأديان والأفكار، حضارتك مدرسة للإنسان. شخصيتك فريدة. رائحتك جميلة. صوتك والعود والقانون والدربكة تدخل النفوس.
أديانك ومذاهبك ترعرعت على أرضك وصدّرتها إلى العالم. وهذه اليوم قررت أن تعود مع ما جمعته من حقد لتقتلك بيروتك، دمشقك، بغدادك وعمانك وقدس أقداسك وهلالك الخصيب العظيم سيلفظ الأحقاد وأجيالك التي لم تولد بعد ستُعيدك إلى قلب التاريخ غصباً عن الحاقدين.
ولكن المستقبل يا سورياي، لن يكون نابضاً من دون ثورة متكاملة يكون أساسها العلم والمعرفة والحداثة. فالأساليب القديمة لم تعُد تنفع لنستعيد مجد أمة، تتحدّى أمم العالم، في العلم والاقتصاد والتكنولوجيا.
فاليوم المعركة العسكرية ضد التكفيريين هي أول الغيث، فالأصعب هو إزالة الرواسب التي تمّ زرعها في العلم والمعرفة، وخاصة بعد أن وصلت الأمور إلى حد اعتماد مناهج تستبعد فيها المواد العلمية كافة مثل الفيزياء والرياضيات وتستبدل بالحسابات البسيطة وتتركز على الدين، حسب تفسيرات بعيدة عن الدين. ففي حين أجيال العالم تخترع وتبدع وتختبر أفكاراً جديدة، يتربى بعض أجيال هذه الأمة على مبادئ متحجرة.
فاليوم معركة الثقافة والعلم وتربية الأجيال قد تكون أهم من المعارك العسكرية، وقد يكون المخطط المستتر وراء الحرب الحالية هو إبعاد الثقافة والمعرفة عن أمتنا، وتنشئة أجيال تُحكم باسم الدين حصراً.
وأود أن أقتبس أقوالاً من مؤسس سنغافورة الحديثة، الدولة الفقيرة والصغيرة التي نجحت في تبوّء مراكز متقدمة في التعليم والاقتصاد ومكافحة الفساد، ويعتبر الدخل الفردي فيها الأعلى عالمياً باستثناء بعض دول الخليج العربي.
فقد اعتبر لي كوان يو أن «الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فيه عندما تسلمت الحكم فـي دولة فقيرة جداً، اهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم، فبنيت المدارس، والجامعات، وأرسلت الشباب إلى الخارج للتعلم، ومن ثم الاستفادة من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافوري».
وسأل أحد الصحافيين لي كوان: «ما هو الفرق بين سنغافورة ودول العالم الثالث؟».
فأجاب لي كوان: نحن نبني المكتبات وهم يبنون المعابد، نحن نشتري الكتب وهم يشترون السلاح، نحن نحارب الفساد من قمة الهرم وهم يُمسكون صغار اللصوص ويتركون كبارهم.
على سورياي أن تسلك طريقاً مختلفة اليوم لتستطيع أن تواكب الألفية الثالثة، لتصبح صرحاً للحضارة والعلم والاختراع والتكنولوجيا، لأن الاقتصاد المقبل هو اقتصاد المعرفة والأفكار، ولن يكون هناك مكان للاقتصاد التقليدي، فثورة التكنولوجيا المقبلة تحتاج إلى مبدعين، تقنيين، مفكرين، متعلّمين من الدرجة المتقدمة.
لقد قرأت مؤخراً مقالاً عن التغيير الحاصل في شكل الاقتصاد العالمي وفي اختفاء بعض الصناعات التقليدية، حيث إن فكرة بسيطة تستطيع أن تتحوّل صناعة عابرة للحدود بفعل التكنولوجيا الرقمية، وهذا التحدّي هو ما تواجهه الشركات في تخطيطها للمستقبل.
فما حدث لكوداك مثلاً بعد أن كانت شركة رائدة في الصناعات الفوتوغرافية وأفلست خلال بضع سنوات سوف يحدث في مجالات الذكاء الاصطناعي، والصحة، والسيارات الكهربائية ذاتية التحكم، والتعليم، والطباعة ثلاثية الأبعاد والزراعة، والوظائف وغيرها. هذا هو عالم الثورة الصناعية الرابعة، وهذا ما يجب أن تتحضّر له سورياي.
كبداية علينا أن نواجه الحقيقة.. فالتطوير المستمر للبرمجيات يتسبب في اختفاء معظم الصناعات التقليدية في غضون فترة من الخمس إلى العشر سنوات المقبلة، وأن شركة Uber لسيارات الأجرة على سبيل المثال هي في الواقع مجرد أداة برمجيات، فهي لا تملك أي سيارة، ورغم ذلك فهي الآن أكبر شركة لسيارات الأجرة في العالم، وبالمثل شركة AIRnb » فقد أصبحت الآن أكبر شركة ضيافة في العالم رغم أنها لا تمتلك أية عقارات، ولكنها تتيح للأشخاص المسافرين بشكل مستمر الاستغناء عن الفنادق الباهظة واستئجار البيوت من مالكها مباشرة.
ومثلاً تستعد شركة غوغل للبدء في تصنيع سيارات ذاتية القيادة خاصة بها بدلاً من إدخال تعديلات على سيارات أنتجتها شركات تصنيع أخرى، وهذا بحد ذاته يشكل تهديداً على المدى البعيد لصناعة السيارات التقليدية.
نحن مدعوون اليوم إلى إعادة تقييم شاملة لدور العلم والثقافة والتكنولوجيا في بناء المجتمعات، ونحن أيضاً مدعوون لأن نفهم ونستوعب. المقاومة ليست بالبندقية فقط، فحتى البندقية في المستقبل ستحتاج إلى مقاوم متعلّم ومثقف ومتمرّس بعلم الكمبيوتر لذا أعود لأذكّر التعليم والتعليم ثم التعليم بالمستوى المطلوب.
وزير سابق