تقرير

التوتّر يخيّم على الأجواء العالمية، على إثر حرب أكتوبر تشرين الأول بين مصر و«إسرائيل»، ويخيّم كذلك على ركّاب الطائرة الأميركية المُتجّهة إلى السعودية، والتي تحمل على متنها وزير المالية الأميركي ويليام سايمون، ونائبه جاري بارسكي، إذ كلّفهما الرئيس الأميركي نفسه بمهمّة لا مجال للفشل فيها بأي حال هذه المهمّة التي غيرت وجه العلاقات السعودية الأميركية تماماً، على مدار أربعة عقود تلت.

ما هي حكاية الدَّين الأميركي للمملكة العربية السعودية؟ ولماذا لم نعرف بشأنه إلى الآن؟ ولماذا طلبت السعودية إبقاء الأمر سرّاً؟ تقرير في جريدة «إندبندنت» البريطانية يُجيب عن هذه الأسئلة.

سلاح النفط… ومهمة سايمون

في أعقاب اندلاع حرب أكتوبر، قرَّرت منظمّة الدول العربية المصدّرة للنفط «أوبك OAPEC»، والمؤلفة من الأعضاء العرب لمؤسسة «أوبك» إضافة إلى مصر وسورية قرّرت فرض حظر نفطي على الولايات المتّحدة، بريطانيا، هولندا، اليابان وكندا لتندلع أزمة شديدة عُرفت بـ«أزمة النفط الأولى». أدّى الحظر، الذي جاء ردّاً على الدعم العسكري الأميركي لـ«الإسرائيليين»، في نهاية المطاف إلى زيادة أسعار النفط إلى أربعة أضعاف، وانهيار البورصة الأميركية، لتفقد الولايات المتحدة السيطرة على اقتصادها، وفقاً للتقرير.

من أجل ذلك، كلّف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وزير ماليته الجديد آنذاك، ويليام سايمون، بمهمّة تحييد سلاح النفط الاقتصادي، وإقناع السعودية بتمويل العجز الكبير في الموازنة الأميركية.

للوهلة الأولى، لم يبدُ سايمون رجلاً مناسباً للمهمة، خصوصاً وقد ارتكب خطيئة دبلوماسية قبلها بأسبوع، حين نعت شاه إيران بـ«المخبول». لكن سايمون، مع عصبيته وغروره، كان يعرف كيف يُقنع المملكة بتنفيذ ما تريده الولايات المتّحدة ببساطة.

تمثَّلَ ما عرضته الولايات المتّحدة في الآتي: أن تشتري الولايات المتّحدة النفط من السعودية، وتوفّر الدعم العسكري والمعدّات. في المقابل، يضخّ السعوديون ملياراتهم إلى خزانة الدولة الأميركية، باعتبارها أكثر مكان آمن يحفظ دولارات النفط.

التعتيم

وفقاً للتقرير، تطلّب صوغ التفاصيل عدّة اجتماعات سرّية كما يقول بارسكي. وفي نهاية المفاوضات، التي استمرت أشهراً، بقيت تفصيلة شديدة الأهمّية: الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، طالب بأن تبقى استثمارات السعودية في سندات الخزانة الأميركية سرّاً، وفقاً لتسريب دبلوماسي من قاعدة بيانات الأرشيف الوطني الأميركي. وقد كان. طوال أربعة عقود، ظلّت استثمارات السعودية سرّاً لا يعرف به سوى حفنة من مس ؤولي وزارة المالية الأميركية. كانت مخاوف الملك فيصل، طبقاً للتسريبات، نابعة من التوترات الناشئة عن حرب أكتوبر، والنظرة العربية إلى السعودية حين تبرم مثل هذه الصفقة، وتعطي دولارات النفط لأكبر داعمي «إسرائيل».

استجابة لطلب الملك، اتبعت وزارة المالية الأميركية عدة إجراءات استثنائية لضمان إخفاء كل أثر للحصة السعودية من الدين الأميركي، من ضمنها السماح للسعودية بتخطي عملية المزايدة بخلق سندات إضافية خصيصاً من أجل حل الأزمة. وحتى بعد أن بدأت وزارة المالية في الإعلان الشهري عن حصة كل دولة أجنبية من الدين الأميركي، فإنها لم تكشف عن حصة السعودية منفصلة، بل ضمتها إلى مجموعة من 14 دولة، سمّتها «مصدّرو النفط».

استمر الحال على ذلك أكثر من 41 سنة، حتى بعد أن انتهى تحقيق مكتب المحاسبة الحكومية الأميركي، في 1979، إلى أن التعتيم المفروض على استثمارات السعودية في الولايات المتّحدة ليس له أي سند قانوني أو إحصائي. لم يمتلك المكتب السلطة الكافية لإجبار وزارة المالية على إنهاء التعتيم، لكنّه خلص إلى أن الولايات المتّحدة «قدّمت التزامات خاصة بالسرّية المالية إلى السعودية»، وربما دولٍ أخرى من أعضاء منظمة «أوبك».

117 ملياراً… أو أكثر

لكن الوزارة، في 16 أيار الماضي، كشفت عن حجم السندات السعودية في خزانة الولايات المتّحدة، استجابة لطلب «بلومبرغ نيوز»، بعد أن «تأكدت الوزارة أن الكشف عن البيانات يتسّق مع الشفافية وقانون حرّية تداول المعلومات»، على حدّ تصريح المتحدّثة الرسمية للوزارة، ويتني سميث.

وفقاً لما كشفت عنه المالية، فإن المملكة تُعدّ من أكبر الدائنين الأجنبيين للولايات المتّحدة، إذ بلغ حجم استثماراتها حوالى 117 مليار دولار. لكن معلومات متواترة، وتحليلات ترفع الرقم إلى الضعف أو أكثر، متوقّعة أن المملكة اتّخذت من عدّة شركات أجنبية ستارةً لتخفي الحجم الحقيقي لاستثماراتها في الولايات المتحدة.

للرقم أهميتان، واحدة اقتصادية والأخرى سياسية. فالانخفاض الكبير في أسعار النفط كلّف السعودية 111 ملياراً من احتياطها النقدي في السنة الماضية فقط، لتتمكن من سدّ أكبر عجزٍ في الموازنة تتعرض له منذ 25 سنة، وتدفع تكاليف حربها على «داعش»، وحملاتها العسكرية الأخرى في اليمن وغيرها. ظهر ذلك العجز المالي واضحاً في اضطرار المملكة إلى عرض جزء من أسهم شركة «أرامكو» النفطية للبيع. وقد تضطر الأزمة السعودية إلى إسالة بعض سنداتها في الولايات المتّحدة لتوفّر السيولة اللازمة لدفع الاقتصاد.

أمّا الأهمية السياسية، فهي إمكانية أن تستخدم المملكة حصّتها من الدين الأميركي كورقة ضغطٍ سياسية، تماماً مثل النفط في السبعينات. وليس هذا محض خيال أو توقّع، فالسعودية هددت الولايات المتّحدة بالفعل، في نيسان الماضي، أنّها ستبدأ في بيع أصول تقدّر قيمتها بـ750 مليار دولار أميركي، في حالة تمرير الكونغرس مشروع قانون يسمح لأسَر ضحايا هجمات 11 أيلول ـ وهجمات إرهابية أخرى ـ بمقاضاة حكومات أجنبية. يأتي هذا بالتزامن مع ضغط سياسي من قبل مرشحي الرئاسة وسياسيين أميركيين للكشف عن جزء من التقرير الأميركي الحكومي لعام 2004، اعتقاداً منهم أنّه يحوي معلومات مفصلة عن علاقة السعودية بهجمات 11 أيلول.

العلاقات الأميركية ـ السعودية تتآكل

تتهاوى علاقة الاعتمادية المشتركة التي نشأت بين الولايات المتحدة والسعودية، من رحم اتفاقية الدين التي يتحدث عنها التقرير. فالولايات المتّحدة تتخذ خطوات جادة للتقارب مع إيران، أبرزها الاتفاقية النووية الإيرانية. كذلك فإن الولايات المتحدة صارت أقل اعتماداً على النفط السعودي بكثير، في السنوات الماضية. وليس هذا مُستغرباً، فالبَلَدان لا يتشاركان الكثير من القيم التي تسمح باستمرار العلاقة السياسية. لكن الولايات المتّحدة، طبقاً لبارسكي، اضطرت اضطراراً إلى هذه الصفقة، ولم تكن وحدها في محاولة مدّ يدها في جيوب السعوديين. فبقية الدول التي طاولتها أزمة النفط، مثل المملكة المتحدة واليابان، سعت في الخفاء إلى إقناع الحكومة السعودية بإعادة استثمار أموالها في اقتصاداتهم المحلية.

اليوم، وفقاً للتقرير، يقول بارسكي إنّ الاتفاقية السرّية مع السعودية كان يجب أن تتفكك منذ سنوات، وأنّه فوجئ بإبقاء المالية الأميركية عليها حتى الآن. لكنّه ليس نادماً على مساهمته في إبرام الاتفاقية، فقد كان ذلك في حينه «أمراً جيداً لأميركا»، على حدّ قوله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى