لا حلّ لعمليات الفلسطينيّين إلّا بإعادة حقوقهم
شارل أبي نادر*
جاءت عملية تل أبيب بالأمس، والتي أدّت إلى مقتل أربعة “إسرائيليّين” وجرح سبعة آخرين، والتي نفّذها المقاومان الفلسطينيان موسى وخالد مخارمة من بلدة يطا في الضفة الغربية، لترخي بظلالها الثقيلة على كافة الأوضاع برمّتها في فلسطين المحتلة، وتفتح أبواباً واسعة من النقاش في دوائر القرار لدى العدو حول خطورة تلك العمليات وضرورة إيجاد حلّ نهائيّ لها، حيث أصبحت تهزّ الكيان الأمنيّ والسياسيّ العسكريّ داخل مجتمع العدو بالكامل.
بدايةً، وبعد اجتماع طارئ جمع نتنياهو ووزير حربه ليبرمان ووزير إرهابه (الأمن)، اعتبروا أنّ العملية هي من أقسى العمليات التي تحدث في قلب تل أبيب، إذ طالت بقعة من المفترض أن تكون آمنة حيث تتمركز مقارّ رسميّة وعسكريّة وأمنيّة، وحيث تُعتبر المنطقة من المناطق السياحية في قلب تل أبيب، والتي بقيت حتى تاريخه تقريباً بعيدة ومحصّنة عن عمليات الفلسطينيّين. ومن ناحيةٍ أخرى، جاءت هذه العملية لتلقي ظلالاً من الحيرة والارتباك على الخرق الحسّاس والفاضح في مستوى عمل الأجهزة الأمنيّة لناحية حصول فلسطينيّين على أسلحة أوتوماتيكيّة، وهذا كان من المحرّمات ومن النقاط التي ركّزت على منعها دائماً أجهزة أمن العدو لما لذلك من تداعيات خطرة على الأمن “الإسرائيلي” بالكامل بشكل عام، وأيضاً لناحية قدرة الفلسطينيّين على إدخال تلك الأسلحة وتهريبها عبر الحواجز الأمنيّة الفاصلة مع مناطق الضفة الغربية، وعلى المداخل التي من المفترض أن تكون مراقَبة وممسوكة أمنيّاً وتقنيّاً بوساطة كاميرات مراقبة متطوّرة وأجهزة رصد دقيقة.
كالعادة، وبعد كلّ اجتماع للخليّة المصغّرة في حكومة العدو، والتي تجتمع في الحالات الاستثنائيّة والطارئة، وحيث نجحت المقاومة الفلسطينية حتى الآن بجعل هذه الخليّة تجتمع أكثر من الحكومة العاديّة، إذ استطاعت أن تُبقي مستوى التوتّر مرتفعاً لدى كيان العدو، أعلن المجتمعون عن عزمهم على تحضير وتنفيذ مجموعة من الخطوات الهجوميّة والدفاعيّة للردّ على العملية بشكل خاص، ولمتابعة إجراءات وخطط الحكومة لمواجهة الانتفاضة والعمليّات الواسعة بشكل عام.
الردّ الفلسطينيّ غير الرسميّ، ولكن الشعبي والصحيح والذي يمثّل عمليّاً الشارع والجو الفلسطيني بشكل عام، جاء على لسان مشير المصريّ القياديّ في حركة حماس، الذي قال إنّ العمليّة ردّ طبيعيّ على الجرائم “الإسرائيليّة” بحق الشعب الفلسطينيّ. وقال أيضاً إنّ انتفاضة القدس مستمرة حتى حصول هذا الشعب المظلوم على حقوقه، وحتى إبعاد الظلم والإجرام والإجحاف عنه.
في الحقيقة، ما تكلّم عنه المسؤولون “الإسرائيليّون” بخصوص الخطوات الهجوميّة والدفاعيّة لن تكون عمليّاً إلّا خطوات انتقاميّة وكيديّة وإجرامية، دأبت حكومة العدو على تنفيذها وممارستها من دون توقّف، بوجود عمليات فلسطينيّة أو بغيابها. إنّها سياسة وعقيدة تطبعان عمل الكيان الصهيوني في كافّة مراحل احتلاله للأرض العربيّة في فلسطين المغتصبة المسلوبة، وقد جاءت عملية تل أبيب كغيرها من العمليات التي سبقتها ونفّذها فلسطينيون ضدّ مستوطنين أو ضدّ عسكريين ورجال أمن “إسرائيليّين”، نتيجة لجرائم ممنهجة ولجرائم دولة ولجرائم حرب ولجرائم ضدّ الإنسانية قامت وتقوم بها “إسرائيل” وعلى مدى عشرات سنوات الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني، سنوات لم تخلُ بتاتاً من إجراءات التعسّف والقهر وانتهاك الحقوق الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة والإنسانيّة، ومن خلال فرض ضغط متواصل ومتصاعد ومدروس على المقدّسات المسيحيّة والإسلاميّة في القدس وفي بيت لحم، وفي باقي الأمكنة المقدّسة في فلسطين المحتلة. وهذه العمليّات التي يقوم بها فلسطينيّون. هي ردّ طبيعي يأتي من دون تخطيط ومن دون تدخّل من أيّة جهة رسميّة أو حزبيّة متشدّدة أو غير متشدّدة، فلسطينيّة أو عربيّة أو إسلاميّة. إنّه تعبير عفويّ توجّهه الغريزة الطبيعيّة، غريزة الدّفاع عن الدّم وعن الوجود وعن الدين وعن التاريخ، وقوة هذه العمليات هي بكونها الردّ الذي يجب أن يأتي، وسوف يأتي دائماً. إنّه ردّ الغريزة لاستعادة الكرامة، إنّه الردّ الضروري لمواجهة القهر، إنّه الردّ الحتميّ لمقاومة الظلم… هذا الردّ تحدّده خلايا الدم الذي يجري في العروق، وليس الردّ الذي تحدّده خلايا أو منظمات متشدّدة ومتطرّفة.
هذه الحقيقة التي تضع الإصبع على الجرح، والنقاط على الحروف، لا يمكن لقادة كيان العدوّ بعد الآن تجاهلها أو التغاضي عنها، وقد حان الوقت لكي يفهم هؤلاء ويستوعبوا أن لا حلّ لهذه العمليات التي ينفّذها مقاومون فلسطينيّون، والتي يعتبرها هؤلاء القادة المجرمون عمليات إرهابيّة، إذ تطال “المجتمع المدني المسالم” كما يقولون، إلّا في إعادة الحقوق المغتصبة للشعب الفلسطينيّ. فهذه العمليّات هي في الحقيقة عمليات النفس الأخير لدى الشعب الفلسطينيّ، والتي تشبه تلك الحركات المجنونة التي تضرب في كلّ اتّجاه، والتي يقوم بها من يتعرّض للاختناق من خلال الضغط على رقبته، فلا يجد مفرّاً من القيام بها، فينفّذها مرغماً لكونها السلاح الوحيد المتوفّر له في صراعٍ وجوديّ تفرضه غريزة البقاء.
*عميد متقاعد