عملية تل أبيب…

روزانا رمّال

يفتتح وزير «الدفاع» «الإسرائيلي» افيغدور ليبرمان مرحلة توليه مسؤولياته الأمنية الجديدة بعملية نوعية من فدائيين فلسطينيين بادرا بإطلاق النار عند الساعة التاسعة والنصف مساء الأربعاء في مركز تجاري قرب القيادة العسكرية «الإسرائيلية» ومجمع وزارة الحرب.

أسلوب فذّ يحكيه هذا العمل الذي أنتج مفهوماً جديداً من العمليات ببساطتها وقدرتها على التأثير والاستفادة من عنصر المفاجأة التي تحكي الكثير من الوعي والتخطيط لدى الشاب الفلسطيني الثائر على تعنّت «إسرائيلي» مستمرّ.

تأخذ المؤسسة الأمنية «الإسرائيلية» على ليبرمان إمعانه في رمي التهم والتصريحات جزافاً، وإعلاء سقف التهديدات للفلسطينيين، في ما بات يشكل بالنسبة لجنرالات «إسرائيليين» عبثاً بالأمن في وضع ليس محدّد المعالم حتى الساعة، فلا الانتفاضة البيضاء تختتم ولا تبدأ معها شرارات عمل أمني فلسطيني جديد وموسّع، وإذا كان ليبرمان هذه المرة يقول، بعد معاينة مكان العملية عن قرب، فإنّ «إسرائيل» لن تكتفي بالتصريحات فقط وإنما ستتخذ خطوات ضدّ ما وصفه بـ «الإرهاب»، فإنّ على «الإسرائيليين» توقع خطوات حقيقية يحتمي فيها في أول امتحان لمسؤوليته الأمنية.

يقول ليبرمان إنه لن يتحدّث عن تفاصيل الخطوات التي ستقوم وزارته باتخاذها، ولكنه يؤكد بأنه لن يكتفي بالتصريحات. وفي هذا الإطار انعقد المجلس الوزاري الأمني المصغّر «الكابينيت» وبحث تداعيات عملية تل أبيب التي قتل فيها 4 «إسرائيليين».

تواجه «إسرائيل» اليوم مأزقاً جديداً فرضته حالة «اللاانتظام» التي انتهجتها الانتفاضة البيضاء منذ شهور، وهي التي للمرة الأولى لا تضع بدايات ولا نهايات لتحرّكاتها، ولا تخاض بأطر تنظيمية أو حزبية، وفي المقابل تغيب غياباً تاماً العمليات التي كانت تخوضها حركة حماس وغيرها من الفصائل بحيث خفتت نسبة وقوعها منذ الأزمة السورية إلى حدّ كبير جداً حتى غابت غياباً تاماً في بعض السنوات ما شكل انزعاجاً جدياً لقوى شبابية قلقت من تأثير تسييس الأزمة السورية على فصيل مقاوم أساسي مثل حركة حماس، أو ربما اعتبار أنّ المهادنة مع «إسرائيل» خطر شديد على القضية الفلسطينية برمّتها التي يخشى أن تصبح صورة مؤطرة عن مفاهيم ونداءات شكلية لا تتعدّى فكرة الحديث عن روايات نضال من التاريخ.

كادت «إسرائيل» تستفيد من هذا الإطار التي وضعت حركة حماس نفسها فيه منذ اندلاع الأزمة السورية ضمن المرجعية الأولى والأخيرة التي تعود إليها بقرارها سياسياً وفكرياً وانتمائها المرتبط بحركة «الإخوان المسلمين» وتركيا التي تمثل بحزبها الحاكم «العدالة والتنمية» المرجع الأكبر، لكن ذلك لم يعد يبدو ناجعاً أمام قلق كون حاجة لخلق بدائل تحفظ أحقية النضال من أجل القضية الفلسطينية بدون العودة إلى مراجع إقليمية تقرّر وتعلي سقف الردود ساعة تشاء وتغيب عن مهاجمة «إسرائيل» ساعات أخرى.

عملية تل أبيب تؤكد أنّ حراكاً سياسياً كبيراً ستشهده الأزمة الفلسطينية «الإسرائيلية» التي كانت قد سبقتها مبادرات جدية عرفت منها الفرنسية لوضع الأزمة على طاولة البحث الدولي بالاشتراك مع دول إقليمية، وفي هذا الإطار سارع نتنياهو إلى روسيا، وبدت القضية الفلسطينية أحد أبرز الطروحات أو الإضافات القادرة على فكّ معضلة باقي الملفات بالمنطقة بما تمثله من ضمانات.

قد يكون تناغم العملية مع هذا الحراك السياسي دافعاً أساسياً يؤكد استحالة قبول الفلسطينيين لأيّ تنازل ممكن، وهو ليس إلا ورقة صارخة ترفع بوجه السلطة الفلسطينية بشخص الرئيس محمود عباس للحذر من أيّ تساهل مطروح.

وُضع الجيش «الإسرائيلي» اليوم أمام عجز عن منع عمليات لم يعُد ممكناً القضاء عليها بدون تقديم تنازلات للفلسطينيين، وهنا أول مواطن الفشل المتمثل بنسف قدرات القبة الحديدية التي تباهى فيها الجيش «الإسرائيلي» وراهن عليها في مواجهته نشاطات الغزيين واستعداد المؤسسة لصدّ هجمات الخارج، ويؤكد على هذا الرئيس «الإسرائيلي» رؤفين ريفلين الذي زار بدوره مكان العملية.

تسقط القبة الحديدية ويسقط معها خيار أساسي للمؤسسة الأمنية «الإسرائيلية» وتفتح أزمة «الابتكار» التي ينحو باتجاهها الشاب الفلسطيني و«هبّة» لم تخفت بغياب عمليات نوعية من قوى مقاومة مقتدرة التنظيم.

يعتقد أنّ أحد قتلى العملية ضابط سابق في وحدة «سايريت ماتكال» التابعة لهيئة أركان الجيش «الإسرائيلي» ومن وحدات النخبة، وهنا ارتفعت أصوات العسكريين القلقين من مرحلة هلامية بقيادة ليبرمان غير القادر على كسب ثقة الأجهزة الأمنية من شاباك وموساد وجيش، نظراً لنزعته المتطرفة في سلوكه السياسي، ما يشكل مخاوف شديدة من أن يكون أيّ ردّ غير مدروس بوابة جديدة لتسعير الانتفاضة بكلّ مقاييسها، وهنا تدرك «إسرائيل» خطورة الردّ العنيف وتداعياته وما يمكن أن يؤدّيه إلى انزلاق وتدهور بالوضع الأمني.

السؤال اليوم حول إمكانية أن تؤثر هذه العملية في الضغط على مسار المفاوضات التي يبدو أنّ أفقها مفتوح في أروقة مفاوضات دولية بين مقترحات واقتراحات مرفقة بكلام لافت لنتنياهو حول استعداده للسير بمقرّرات المبادرة العربية بدون شروط، كما جاء على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أن يعود نتنياهو لينفي الحديث في مشهد لم يكن مقنعاً وشكل هروباً ملموساً.

الهروب هذا لم يعد ممكناً، وتدهور الأوضاع قادر على وضع «إسرائيل» أمام حرب تستدرج قوى عديدة تتحيّن الفرصة لتوسيع دائرة الردّ مثل حزب الله وحلفه، وهو ما تجنّبته «إسرائيل» مراراً خلال الحرب السورية. فهل تهادن «إسرائيل» وتظهر عجزاً مفهوماً أم تردّ وتفتح باب المجهول؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى