الأحياء القديمة في دمشق… باقية على رونقها وألقها رغم الإرهاب
لورا محمود
يقول المؤرخ ابن عساكر في كتابه الشهير «تاريخ دمشق»، «إن ثاني مدينة بُنيت على الأرض بعد طوفان نوح هي دمشق». ويثبت ابن عساكر من خلال عشرات الروايات عن بداية إعمار دمشق وبنائها، أنّ هذه المدينة احتضنت على مرّ العصور حضارات عريقة أبت الرحيل من دون أن تترك آثارها في شوارع المدينة وأزقتها القديمة. الأمر الذي ربما يفسّر سرّ المتعة التي يشعر بها السائر في شوارع أقدم مدينة ما زالت مأهولة في العالم وحاراتها.
حي ساروجة
وفي دمشق أحياء عدّة ما زالت تحافظ على تراثها وتسمياتها. ومنها حي ساروجة. وأتت التسمية من الكلمة التركية «ساريجا»، التي تعني اللون الأصفر. ويذكر بعض الباحثون ان اسم الحيّ منسوب إلى أحد قادته، وهو صارم الدين ساروجة المتوفى عام 1342 ميلادياً، إذ يزيد عمر الحي على 600 سنة.
احتلّ الحي مكانة مرموقة، فكان مجالاً للتنافس بين الأمراء المملوكيين الذين تسابقوا لبناء المنشآت فيه، فشيّدوا المدارس والجوامع والحمّامات التي لا يزال الكثير منها قائماً حتى الآن. وكانت «المدرسة الشامية البرّانية» أساساً لإنشائه، حيث أخذ بالاتساع حولها تدريجياً حتى اكتمل وأصبح له سوق خاص في عهد الأمير سيف الدين تنكز، الذي مكث في دمشق طويلاً، والذي ترجع إليه الكثير من الآثار المعمارية.
حي ساروجة كان أوّل منطقة من دمشق بنيت خارج أسوار المدينة في القرن الثالث عشر الميلادي، فبيوت ساروجة وحمّاماته ومساجده تشكل واجهة للفن المعماري لحقبة مجيدة من تاريخ دمشق، وما زالت أبواب «مسجد الورد» مفتوحة منذ بنائه قبل 600 سنة، وكذلك «حمّام الورد» المجاور له. وتوصف بيوت الحي بالقصور، فالمنزل من الخارج لا يلفت الأنظار بواجهته وبابه، غير أنه في الداخل يضم باحة تزينها نافورة ماء في الوسط وشجرة ليمون في إحدى زواياها ما يخلق جواً يمتزج فيه الضوء والنضارة ويحيط بالباحة من جهاتها الأربع بناء من طابقين.
وتعود تلك الحقبة إلى الأيوبيين من سلالة صلاح الدين والأتراك المماليك الذين هزموا المغول في معركة عين جالوت عام 1270، وشهد الحي أثناء حكم العثمانيين ابتداء من القرن السادس عشر زيادة في وفود الأعيان للسكن فيه. وقد حافظ حي أو سوق ساروجة على مكانته كحيّ راق حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن العشرين.
بعدما تم إنشاء هذا الحي من قبل المماليك، تعرض للتخريب نتيجة صراعات الأمراء في الفترة المملوكية، ما أدى إلى دمار «المدرسة الشامية البرّانية» برمّتها وازداد الحال سوءاً بعدما احتل تيمورلنك دمشق، فقد أصبح مكان الحي قاعدة لمنجنيقاته التي كانت تقصف قلعة دمشق. ولم يقف الأمر عند هذا الحيّ، فقد قام تيمورلنك بإحراق دمشق بما فيها حي ساروجة قبل أن ينسحب منها.
يتألف حي سوق ساروجة من المحور الرئيس وهو السوق أو السويقة ويتفرع عن هذا المحور عدد من الحارات التي يتفرع عنها أيضا عدد من الدروب والأزقة الثانوية.
لم تكن منطقة ساروجة تاريخياً تحتل مركز المدينة أو وسطها، فهي تقع خارج أسوار المدينة وإلى الشمال الغربي من قلعة دمشق. أما من الشرق فتحدّها العقيبة والعمارة البرّانية سوق الهال القديم ومن الجنوب البحصة والسنجقدار، ومن الغرب البحصة البرانية.
كان هذا الحيّ يشكل مع جواره تكاملاً عمرانياً هاماً، خصوصاً بالنسبة إلى التطوّر العمراني والتاريخي لمدينة دمشق. كما أن الحدود التي كانت تفصل بين منطقة ساروجة والمناطق الأخرى المجاورة لها كالعمارة والبحصة كانت حدوداً غير واضحة وتغلب عليها صفة الحدود الإدارية والاجتماعية.
أما المحور الواصل من باب العمارة في المدينة القديمة إلى العقيبة فسويقة ساروجة، فيعتبر أحد المحاور التاريخية الهامة في دمشق، حيث كانت هذه الأحياء الموجودة خارج الأسوار تتصل من خلاله مع أسواق المدينة وجامعها الكبير.
إن الدخول إلى هذه الأحياء كان محدّداً ببوابات معينة، فلقد كانت لساروجة بوابتان تسمح بالدخول مباشرة إلى هذا الحي، إحداهما كانت بوابة الصالحية وهي التي كانت تصل بين ساروجة ومحلة الصالحية وبساتينها. وبوابة أخرى من الجهة الشمالية الغربية هي بوابة «عين الكرش» التي كانت تصل إلى منطقة البساتين والأراضي الزراعية.
لم يكن هناك أيّ منفذ مباشر لساروجة من البساتين المحيطة وكانت كما هو معروف تفتح دوماً على أفنيتها، كما تفتح أبوابها على أزقة الحي بينما تدير ظهورها للبساتين ومن هنا جاءت تسمية «قفا الدور»!
ضمّ حي ساروجة في القرن التاسع عشر الميلادي إضافة إلى الدكاكين والبيوت السكنية التقليدية ثلاثة حمّامات الورد ـ الجوزة ـ الخانجي إضافة إلى حمّام «القرماني». كذلك وجدت أربعة أفران وخمسة عشر مسجداً أو مصلى وطاحونة وعدد وفير من السبل والأضرحة أو التُّرَب، كما كان يوجد مقهى إلى جانب حمّام «الجوزة». إلا أن علاقة هذا الحي مع المدينة داخل الأسوار كانت علاقة قوية سواء من الناحية الإدارية أو الاقتصادية أو الدينية، إضافة إلى علاقاتها مع باقي الأحياء المجاورة، خصوصاً العقيبة والبحصة والسنجقدار والشرف الأعلى، لا سيما في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
مع انتهاء العصر المملوكي وبدء الحكم العثماني لدمشق، أخذت ملامح الحي والسوق تتبدل، ونظراً إلى وقوع الحي خارج سور المدينة القديمة، فقد تميز بسوقه الكبير ومنازله الواسعة وحمّاماته ومساجده الفخمة. وهذا ما دفع رجال الدولة العثمانية إلى التمركز فيه بعد أن أجلوا العائلات المملوكية منه وأطلقوا على الحي اسم اسطنبول الكبرى نسبة إلى الطبقات الأرستقراطية العثمانية التي كانت تقطنه.
في حي ساروجة مجموعة من المشيدات الأثرية التي تعطينا صورة حيّة عن تاريخ الحيّ، ومنها «المدرسة الشامية البرانية» التي اكتسبت شهرة واسعة حيث كان الأمراء والعلماء يقيمون حفلات رسمية عند افتتاحها وإغلاقها. و«جامع الورد» المعروف باسم «برسباي» نسبة للأمير المملوكي برسباي الناصري نائب حلب وطرابلس في العهد المملوكي الذي شيد سنة 1426، والمدرسة المرادية البرانية التي أُقيمت في منزل الشيخ مراد علي البخاري، و«حمّام الورد» ويقع خلف جامع «برسباي» حيث يُعتقد أن الأمير صارم الدين ساروجة هو من بناه.
وهناك مسجد الوزير الذي بناه الوزير أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني وزير أمير دمشق ظهير الدين طغتنكين، الذي حكم دمشق آنذاك. ولم يبقَ من هذا المسجد اليوم إلا كتابة بالخط الكوفي.
السنجقدار
عرفت المنطقة الممتدة من مدخل سوق الحميدية وإلى جسر الزرابلية فمدخل ساحة المرجة، بِاسم السنجقدار، وتعود هذه التسمية إلى جذور ترتبط بالعهد الذي كانت فيه مدينة دمشق منطلق ركب الحجّ الشامي إلى الديار المقدسة في مكة والمدينة المنورة.
وقد أرادوا بالسنجق «العلم»، والمقصود به علم النبي، وكان يسمى: «العقاب»، وكان يحفظ في دمشق، ذلك أنه انتقل إلى الأمويين ثم إلى العباسيين ومن بعد إلى الفاطميين بالقاهرة، وأعيد إلى دمشق زمن السلطان سليم الأول بعد القضاء على دولة المماليك بالقاهرة.
ونقل إلى اسطنبول بفعل الصدر الأعظم سنان باشا، ووضع عليه حماية في غرفة خاصة من الباب العالي. ثمّ أصبح الاحتفال في دمشق بالسنجق العثماني عوضاً عن سنجق النبي، ويكون في هذا الاحتفال في اليوم الرابع من شهر شوال من كل سنة هجرية، فيخرجونه «السنجق» من القلعة على جمل خاص مزدان بهذه المناسبة، ويمسك بهذا الجمل أيضاً موظف خاص بلباس هندام خاص، وكانت الجماهير تحيط بهذا الجمل اعتقاداً منهم أن لمس ذلك الجمل يجلب الخير والبركة، فيسير في مقدمة الموكب الموسيقى والمؤذنون وعموم صناجق الآليات العسكرية بدمشق، ويكون خروجهم بعد صلاة عصر اليوم الرابع من شوال من باب القلعة الغربي المعروف بِاسم باب البوابيجية في سوق ساروجة قبل أن ينتقل سوق ساروجة إلى موقعه الحالي، ويكون مرورهم بمصاحبة محمل الحج من الدرويشية فالسفانية ثم إلى شارع البدوي الواصل بين السفانية وحي الشاغور، ثم إلى باب كيسان وإلى باب شرقي، ومن بعد إلى مقام الشيخ أرسلان الدمشقي، فعلى برج الروس والسادات والعمارة والأبارين مروراً بساروجة، فإلى أسفل حدرة جوزة الحدباء قرب جامع «يلبغا» فإلى السرايا، حيث يكون والي دمشق أو من في حكمه بالاستقبال.
وتكون المواقع التي يمر فيها السنجق في هذه الدورة مزدحمة، غاصة بالأهلين، خصوصاً من قدم منهم من الأنحاء السورية احتفالاً بهذه المناسبة. وبالطبع فإن أشغال مدينة دمشق تتعطل جميعها عدا باعة المأكولات.
وإذا تساءل أحدنا عن سبب تسمية «سنجقدار»، فيمكن القول إن ذلك يعود إلى الدار التي كانت تحفظ بها عوائد موكب الحج الشامي إلى حين انطلاق ركب الحج الشامي إلى الديار المقدسة المعروف بِاسم «الكلار».
كما أطلق عليها «المرجة» اسم عين القصارين، لوجود أرض خضراء معشوشبة على أطرافها، وهذه الأرض محفوفة بأشجار الحور والصفصاف وكان القصارون الذين يمتهنون حرفة إكساب القماش بياضاً ناصعاً، كان هؤلاء يأتون بالقماش فينشرونه على العشب، ويرشونه بالماء مراراً بوساطة عصا طويلة تنتهي بعبوة يغرف بها من ماء النهر ويرش ذلك القماش الممدود على العشب، حتى يقصر ويصبح ناصع البياض.
وعين القصارين هذه «المرجة» هي متنزه لطيف، ماؤه عذب ويقصده زمن الصيف الكثير من أهالي دمشق للنزهة، وكان منهم من يُحضر معه طعامه فيتناوله على العشب، أو في ظلّ شجرة وارفة الظلال.
وقد شيّدت حول ساحة المرجة في العهد العثماني مجموعة من الأبنية المتأثرة بفنون العمارة واتجاهاتها الإقليمية والمناخية فكانت مزيجاً من الطراز الأوروبي المتأثر بالفن المعماري اليوناني والعثماني، ومن ذلك السرايا والعدلية والبريد وبناية العابد فضلاً عن ذلك بناء البلدية الذي شيد أيام الوالي العثماني حسين ناظم باشا سنة 1900. وقد هُدم في أواخر العقد الخامس من القرن العشرين، وشيّدت مكانه بناية الشربتلي القائمة، وقد جرت في بناء البلدية هذا مراسم إعلان استقلال سورية، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سورية يوم الاثنين الثامن من شهر أيار سنة 1920 وعرف هذا اليوم بعيد الاستقلال وغطيت الساحة في عهد الوالي العثماني محمد راشد باشا سنة 1866، واستكملت تغطيتها في مطلع القرن السادس من القرن العشرين.
وكانت في ربيع كل سنة تتعرض لفيضان نهر بردى في ما يعرف بالزودة، فتتحول ساحة المرجة إلى ما يشبه البحيرة التي يتعذر خوضها، وقد يمتد أثر هذه الزودة من منطقة طلعة التجهيز ثانوية جودت الهاشمي والتكية السليمانية وجسر الحرية غرباً إلى سوق التبن وسوق العتيق شرقاً، ولا تزال الأرصفة الواقية لهذه الزودة باقية إلى يومنا هذا عند مخرج المرجة إلى سوق التبن، وتكون وسائل الاتصال عبر هذه الزودة على الأكتاف إذا لم يتيسر الانتقال بالحناطير.
أما النصب التذكاري الذي يتوسط ساحة المرجة، فهو لذكرى بدء الاتصالات البرقية بين مدينة دمشق والمدينة المنورة، وقد أقيم عام 1907 أيام السلطان عبد الحميد الثاني حينما كان حسين ناظم باشا والياً على دمشق.
والنصب المذكور من البرونز، وهو من تصميم وتنفيذ فنان إيطالي، وفي أعلى هذا النصب أنموذج لجامع يلدز في اسطنبول، وقد أقيم له يوم تدشينه حفل كبير حضره حسين ناظم باشا ورجالات الدولة وحشد كبير من العلماء والمسؤولين.
ومن جهة أخرى فقد ظلت المرجة مركزاً لمدينة دمشق، ومركزاً لكثير من فعاليات دمشق الإدارية، فضلاً عن سبل تزجية الوقت المقامة حولها، كصالات السينما والمقاهي والمسارح والملاهي.
ولما ظهر دور الترام «الترامواي» في المواصلات في مدينة دمشق، أنشئت حول النصب التذكاري حديقة وأصبحت الساحة مركزاً لانطلاق عربات الترام إلى أحياء المهاجرين والشيخ محيي الدين والميدان والقصاع فضلاً عن خط الترام الذي كان يوم دمشق في دوما وكان الواحد من أبناء جيلنا إذا كان له أن يركب الترامواي ولم يكن قد قطع تذكرة بأجرة الركوب. يُحاول التملص من الجابي حتى إذا استطاع أن يشد الحبل الذي يسمح لسنكة الترام استمداد الكهرباء القوة المحركة للترام فيتوقف الترام ويستطيع ذلك الراكب الإفلات من الجابي الكمساري .
المرجة
قدم إلى دمشق عام 1222 هجري كنج يوسف باشا والياً بفرمان عثماني على دمشق والشام ومكث والياً فيها لمده ثلاث سنوات. وهذا الوالي هو أول من تنبه لأهمية ساحة المرجة، وأراد منافسة قصر الوالي أسعد باشا العظم، فأنشأ فيها قصراً سنة 1807. في جهة الجنوب في حين كان جامع «يلبغا» المملوكي يقع إلى جهة الشمال.
ومع الأسف كان شأن قصر كنج يوسف باشا في ساحة المرجة الهدم شأنه شأن باقي الأبنية في الساحة التي طاولتها يد الإنسان بالهدم والتخريب، كبناء البلدية وجامع «يلبغا» وبناء دار البريد والبرق ودار العدلية.
كانت هذه الأبنية بمجموعها نواة مركز المدينة، الذي اتصل بأحياء أخرى بواسطة شوارع وطرق، من أهمها جادة السنجقدار من الشرق يوازيها مدخل سوق التبن وسوق علي باشا، وإلى الجنوب شارع رامي وإلى الغرب جادة الشرابي وضفتا بردى ومن الشمال زقاق البحصة البرانية المؤدي إلى حي سوق ساروجة.
كان نهر بردى يقسم ساحة المرجة إلى قسمين، ولكن الوالي العثماني محمد راشد باشا قام عام 1866 بتغطية النهر، وهكذا أصبحت المنطقة ميداناً فسيحاً سهلت فيه حركة القوافل والنقل، فتمركزت فيه بعض الفعاليات الموقتة.
أطلق على ساحة المرجة عدة أسماء منها: الميدان الكبير، وساحة الشهداء تيمناً بالشهداء الذين أعدمهم جمال باشا السفاح على أعمده المشانق في السادس من أيار عام 1916.
كان الوالي العثماني ناظم باشا قد انشأ بناءً ضخماً خلف بناء دار البلدية «لم يزل قائماً حتى الآن» هو دار الحكومة والسرايا عام 1900 الذي أصبح مقراً للولاة عوضاً عن قصر كنج يوسف باشا. ثم صار مقراً للحكومة العربية الأولى زمن الأمير فيصل 1918 1920 ثم استمر مقراً للحكومة في عهد الاستعمار الفرنسي. إلى أن خصّص لوزارة الداخلية والتي لم تزل تشغله حتى الآن.
لقد كان طراز بناء دار الحكومة مطابقاً لطراز دار البلدية، وهو الطراز الكلاسيكي المحدث، المنتشر آنذاك في فرنسا والمطور والمبسط عن الروماني القديم، وهو دليل على أن الفنيين الأجانب قد نقلوا إلى دمشق الطراز المعماري الذي كان سائداً في بلادهم، والمختلف تماماً عن الطراز الذي عرفته دمشق في بناء قصر العظم، وقصر السعادة، وقصر كنج. لقد امتد بناء هذا الطراز إلى بناء دائرة الشرطة وطبابة المركز المحاذية لدار البلدية. وبينهما كان كشك عثماني الطراز لبيع الطوابع المالية والتبغ وغيرها.
عام 1900، فكر السلطان عبد الحميد بتأثير من الألمان بإنشاء خط حديدي يمتد من المدينة المنورة إلى دمشق الشام ويصل إلى اسطنبول ومنها إلى أوروبا. واستقبل الوالي ناظم باشا في دمشق أمر السلطان بلهفة، فقام بالإشراف على بناء الخط من الأموال التي خصصت لذلك ومقدارها 283 ألف ليرة ذهبية، واستطاع الوالي أن يقتصد بالإنفاق إذ كلف الجنود بأعمال البناء فقام بتنفيذ منشآت مهمة مستعيناً بالمهندسين والفنيين الألمان والنمسويين الذين قدموا إلى دمشق لتنفيذ المشروع. وحين تم إنشاء الخط الحديدي عام 1907 وتم في السنة نفسها تدشين خط الاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنورة، وفي هذه المناسبة، أقيم النصب التذكاري في وسط ساحة المرجة، والذي لم يزل قائماً حتى الآن، وهو مصنوع من البرونز وفي أعلاه مجسم لجامع يلدز أشهر جوامع اسطنبول، وقام بتصميمه فنان إيطالي.
كان ذلك تأكيداً لأهمية هذه الساحة ومركزيتها. وهذا النصب مؤلف من عمود ضخم تعلوه قاعدة عليها مجسم جامع يلدز الخاص بالسلطان، وتلتف حول العمود أسلاك رمزاً للاتصال البرقي بين المدينة المنورة ودمشق دعماً لعمليات النقل بقطارات خط الحجاز.
ويبقى من أهم وأعرق الأبنية القائمة حتى الآن في ساحة المرجة، بناء العابد الذي أنشأه أحمد عزت باشا العابد ثاني أمناء سر السلطان عبد الحميد الثاني. وأشرف على تنفيذ البناء وتصميمه المهندس الإسباني فرناندو دي أراندا عام 1908، وانتهى من إنشائه عام 1910. وبذلك تكرّست هذه الساحة مركزاً جديداً للمدينة. وفيها تزاحمت وسائط النقل من عربات خيل ودواب. ثم في أيامنا هذه الباصات والسيارات والمحال التجارية.
قد تكون ساحة المرجة سجلاً يومياً لتاريخ دمشق، فقد شهدت المرجة أحداثاً سياسية مهمة وكوارث طبيعية، وسجلت تطور دمشق، ففي عام 1916 شهدت قيام جمال باشا السفاح بإعدام رجالات سورية ولبنان في 6 أيار من عام 1916، وقد أطلق على المرجة في ما بعد اسم «ساحة الشهداء» تخليداً لذكرى هؤلاء الشهداء، كما كانت المرجة شاهداً على بطولات رجالات سوريه أثناء الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش، فقد كان المستعمر الفرنسي يجمع جثث الشهداء ويلقي بها في ساحة المرجة بغية نشر الرعب في نفوس المواطنين.
وفي العصر الحديث، شهدت المرجة إعدام الجاسوس «الإسرائيلي» إيلي كوهين.
ومن الكوارث الطبيعية التي شهدتها الساحة طوفان نهر بردى المتكرر الذي كان يسمى الزورة أو الفيضان ، على إثر الأمطار الغزيرة التي كانت تعم دمشق.
وكون المرجة تشكل قلب دمشق، ظلت لعقود طويلة في القرن الماضي المكان الرئيس لانطلاق وسائل النقل بدءاً بالدواب الجِمال والأحصنة إلى حافلات النقل الجماعي.
فكانت المرجة مركزاً لانطلاق عربات الخيل «الحنتور»، والتي كانت تقف حول الحديقة الصغيرة التي تحيط بالعمود التذكاري. ثم أضحت مركزاً للحافلات الكهربائية «الترامواي» والسيارة.
تعرضت ساحة المرجة للإرهاب خلال السنوات الماضية، فقد فجر إرهابيون سيارات مفخخة بكميات كبيرة من المتفجرات في منطقة المرجة ما أدّى إلى استشهاد 14 مواطناً وجرح عشرات آخرين وإلحاق أضرار ببرج دمشق التجاري وجامع فضل الله البصيري وفندق عمر الخيام ودائرة الآثار التابعة لريف دمشق، كما تعرضت الساحة لعشرات قذائف الهاون ما أدى إلى استشهاد العشرات من المواطنين الأبرياء وجرح المئات.
ساحة المرجة لها المكانة المميزة في قلوب كل السوريين، وترتبط بتاريخ سورية، ولها قصص وحكايات قد تبدأ ولا تنتهي. ساحة المرجة رمز دمشق الخالدة وأحجارها تنبض بتاريخ شعب أبيّ أحب الحياة، وأحب دمشق، وتروي ساحة المرجة على مر الأيام والسنين أسطورة خالدة في حبّ الوطن. وتبقى سورية بلاد الشمس في وجه أطماعهم وإجرامهم عالية الجبين شامخة تعانق الأفق الرحب محبة وحضارة وقوة.