ضبابية السلوك الأميركي الراهن في سورية… تكتيك أم ارتباك؟!
سومر صالح
ثلاث من الأسئلة المفصلية من قلب الحدث السوري، باتت عنوان المرحلة الراهنة، ولكن على أهمّيتها وإلحاحها، ما زالت تنتظر إجابات محتجّبة قسراً مصدرها البيت الأبيض، أول هذه الأسئلة لماذا لم تفِ الولايات المتحدة بوعودها إلى روسيا بضمان فصل التشابك الحاصل بين حلفائها «المعتدلين» بنظرها و«جبهة النصرة» الإرهابية، وبعبارة أخرى لماذا لم تلتزم الولايات المتحدة بإعلان فيينا الثالث 17/5/2016 ؟ والسؤال الثاني، لماذا ترفض إدارة أوباما حتى الآن أيّ شكلٍ من التعاون مع موسكو بشأن تنسيق الضربات الجوية على الإرهاب في سورية بشقيه الداعشي والقاعدي، رغم المبادرات الروسية المتكرّرة وما تحمله هذه المبادرات من إشاراتٍ واستعداداتٍ لإمكانية تقاطع المصالح بين الطرفين؟ والسؤال الثالث لماذا لم تظهر الولايات المتحدة أيّ حماسة لجهود تحريك المفاوضات المتعثرة بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» رغم تنازلات العرب الكارثية عن الجولان السوري المحتلّ، وطرح فكرة التطبيع الدافئ مع «إسرائيل»، وربما أكثر من ذلك القبول علناً بـ«إسرائيل» «دولة يهودية»؟ ألم يكن هذا هو جوهر الإستراتيجية الأميركية لعقود خلت؟
غياب الأجوبة القاطعة عن هذه التساؤلات، تزامن مع إشارات متناقضة صدرت عن الإدارة الأميركية، بدايةً من التلكّؤ أو التباطؤ الأميركي في تنفيذ وعود أوباما بهزيمة «داعش» في الرقة رغم القرار الأميركي الرمزي بالتدخل البري في سورية، وما يحمله هذا القرار من معان تشكّل بحدّ ذاتها منعطفاً في مسار الأزمة السورية، وصولاً إلى ضبابية أميركية في الموقف من إطلاق الجيش العربي السوري معركة الطبقة، وربما الرقة، بل وتأييده في أحد مستويات قراء الحدث، وهو ما أعلنه البنتاغون على لسان الجنرال كريستوفر هارفير الذي قال: «نؤيد جميع الأعمال التي من الممكن أن تمارس ضغطاً على داعش»، ليترافق هذا التصريح مع تصريح لافتٍ للبنتاغون على لسان المتحدث باسمه بيتر كوك بـ«أنّ نقاشاً يجري حالياً في البيت الأبيض حول احتمال تنسيق الجهود العسكرية بين الولايات المتحدة وروسيا في سورية»، وكأنّ في الأمر محاولة لكسب وقت مستقطع، ولكن من جهة أخرى مجرد السماح الأميركي للوحدات الكردية بعبور غرب نهر الفرات باتجاه منبج ورعايته، هو بحدّ ذاته دفعٌ للطرف التركي لزجّ قواته بين مدينتي مارع واعزاز وصولاً إلى حلب لمنع التواصل الجغرافي بين منبج وعفرين وربط الكانتونات الكردية الرئيسية الثلاث ببعضها، وهو ما جرى فعلياً ورمزياً عبر دخول وحدات خاصة تركية شاركت في «معارك أطراف مدينة حلب» – هنا الكلام صادر عن مركز حميميم 4/6/2016 ، وهو بحدّ ذاته دفعٌ إلى حافة المواجهة الإقليمية، ليصبح لدينا احتمالان في قراءة السلوك الأميركي المتناقض مع تصريحاته، الاحتمال الأول هو أنّ الإدارة الأميركية تتجه إلى التعاون مع روسيا في سورية لمواجهة «داعش»، وهو ما يبرّر سلوكها وتصريحاتها بشأن العملية المشتركة الروسية السورية في الطبقة، بل ومحاولة استغنائها عن مطار «أنجرليك» التركي واستبداله بحاملة الطائرات هاري ترومان التي بدأت بتنفيذ طلعات جوية ضدّ «داعش» انطلاقاً من البحر المتوسط، والاحتمال الثاني أنّ السماح الأميركي للكرد بعبور نهر الفرات غرباً هو للدفع بتركيا إلى زجّ كلّ إمكانياتها في الشمال السوري والعمل على توحيد كلّ الفصائل المسلحة لتحقيق منطقة عازلة بالوكالة في مواجهة الكرد، وهو ما يعقّد المهمة الروسية بضرب «جبهة النصرة»، بل وأكثر من ذلك يدخلها في صراعات كبيرة مع كلّ الدول الإقليمية الداعمة لتلك الفصائل، في الوقت ذاته «تبارك» تقدّم الجيش السوري إلى الرقة لفتح جبهة معقدة وصعبة مع «داعش» تبدأ بالرقة ولا تنتهي بها، تشتّت من خلالها الجهد السوري في شمال حلب، وتقلل من المفاعيل الميدانية والسياسية المتوقعة لتلك المعركة، وبالتالي تسهّل الاندفاعة التركية، هذه الضبابية في فهم السلوك الأميركي في الأزمة السورية والمتناقض مع التصريحات المعلنة، والتي ترافقت مع إجهاض متعمّد للمبادرة الفرنسية لتحريك مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يضعنا أمام اتجاهين ومسارين لفهم حقيقة السلوك الأميركي، الاتجاه الأول أنّ الولايات المتحدة ما زالت تفكر بعقلية الأحادية القطبية وأحادية القوة الأميركية، وهو ما يتطلب إجهاضاً للقوة الروسية وتطويق نفوذها سريعاً في المنطقة، وهو ما يتطلب إقحام موسكو في صراعات إقليمية لا تنتهي في الشرق الأوسط يوفرها نموذج للصراع الروسي التركي في سورية الذي من الممكن أن يتوسع إلى حدود روسيا في القوقاز وحدائقها في وسط آسيا، وهذا الاتجاه يتقاطع مع إجهاض المبادرة الفرنسية، التي حاولت كسر الاحتكار الأميركي لرعاية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وتثبيت الزعامة المطلقة الأميركية مجدّداً يتطلب إجهاضاً للسلوك الفرنسي الذي بدأ يمارس تفلّتاً على الأحادية القطبية، أمّا الاتجاه الثاني أنّ ابتزازاً خضعت له إدارة أوباما بعد البروباغندا المثيرة التي مهّدت لمعركة الرقة من قبل حليفيها تركيا من جهة والكرد من جهة أخرى، فتركيا سعت إلى فرض معادلة تدعيش اعزاز ومارع في مقابل التحالف الأميركي الكردي في الرقة، والذي يمهّد لتدخل تركي لما تسمّيه أنقرة خطوطاً حمر باقتراب «داعش» من كيليس التركية، وهو ما قد يؤدّي إلى مواجهة تركية روسية لا ترغب بها الولايات المتحدة، والكرد أيضاً رفضوا دخول الرقة قبل ربط كانتوني عين عرب بجيب منبج، في مقابل ذلك بادرت الخارجية الروسية إلى إخراج الأميركي من مأزقه وعرضت عليه التعاون البري والجوي لمكافحة «داعش» وبدأت بتغطية قوات الجيش السوري المتقدّمة إلى الطبقة السورية جواً، مما يسهّل مهمة الكرد والولايات المتحدة في محاور الاقتحام الشرقية والشمالية الشرقية، وبالتالي هي إشارة روسية بقبول مبدأ التعويض للخسائر الأميركية سياسياً جراء الحرب الروسية المرتقب تنفيذها ضدّ معاقل «النصرة» الإرهابية وحلفائها في ريفي إدلب وحلب، وبالتالي يصبح الأكراد قوة ميدانية وسياسية في جنيف تعوّض خسائر الولايات المتحدة لحلفائها المرتبطين مع «جبهة النصرة».
مما تقدّم يتضح أنّ كلّ القراءات السابقة لذات الأحداث تبقى مقبولة ومرجحة، وهذه النتيجة البسيطة تضعنا على مفترق طرق في توصيف وفهم راهنية السلوك الأميركي، فهل نحن أمام غموض أميركي ممنهج ومدروس، يهدف إلى دفع كلّ الأطراف إلى دراسة خياراتها وقراراتها مراراً قبل مباشرتها وهو حال الطرف الروسي الذي ما زال يمدّد ساعة الصفر في مواجهة «جبهة النصرة» منذ 25 الشهر الماضي، وبذلك هو كسبٌ للوقت الأميركي وتعليق مجمل الصراع إلى الإدارة الأميركية الجديدة التي تملك الوقت الكافي لاتخاذ سياسات شاملة في مواجهة تحوّل روسيا ربما إلى قطب ثان في السياسة الدولية، أم أنّ هذا الغموض هو ارتباكٌ أميركيٌّ نابع من عدم قدرة أوباما على اتخاذ قرار التعاون مع روسيا لأنّ في ذلك اعترافٌ بانتقال روسيا إلى مكانة جديدة في السياسة الدولية تؤذن بمرحلة جديدة في العلاقات الدولية، لا تملك إدارة أوباما الوقت الكافي للتكيّف مع مرحلتها الانتقالية وتبعاتها، وفي كلا الحالتين كان لا بدّ من تطويق المساعي الفرنسية في «الشرق الأوسط»، فإمّا أن يكون بيد الولايات المتحدة أو محصور في إطار رعاية روسية أميركية حصرية، ترتب الوضع الدولي استناداً إلى قضيتين متصلتين وهما السورية والفلسطينية، وتماشياً مع الغموض الأميركي برز موقف لافتٌ في الاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع الروسي والسوري والإيراني يبرز الحكمة المشتركة في التعاطي مع الظرف الأميركي الغامض يتلخص بـ«الموافقة على وقف إطلاق نار مكفول ومضمون لا يؤدّي إلى إعادة بنية وقدرات الإرهابيين في سورية»، وبالتالي أصبحت الكرة اليوم في ملعب أوباما فإنْ كان في مأزق ويخشى من مفاعيل الحرب الروسية السورية على حلفائه وتغيير الوضع في جنيف إلى ما قبل جنيف الثالث بجولته الأولى، بالإمكان القبول بمبدأ وقف شامل لإطلاق النار وتعويض لخسائر بمكتسبات الكرد الميدانية، ومن ناحية أخرى تسمح لاوباما بتقطيع الوقت مع روسيا إلى إدارة جديدة، وفي خلاف ذلك تعهّد المجتمعون بـ«بإجراءات حازمة وسريعة وشاملة ومنسجمة ضدّ الإرهاب» في إشارة واضحة إلى أنّ سياسة الستاتيكو الذي يحاول أوباما اتباعها لن تبصر النور… وأمام هذه الاحتمالات والقراءات تبقى كلّ السيناريوات حاضرة وبقوة، فهل يحتكم أطراف الصراع إلى السياسة أم إلى الميدان الذي أشار إليه الرئيس الأسد في خطابه الأخير قائلاً: «سنحرّر كلّ شبر من سورية من أيديهم، فلا خيار أمامنا سوى الانتصار، وإلا فلن تبقى سورية»… فهل قرأ الأميركي رسالة الجهوزية تلك التي أطلقها الرئيس الأسد في دمشق وكان صداها في طهران!!!