الساحر يملأ فضاء السويد والدنمارك عشقاً وطرباً
جودي يعقوب
بليلٍ ساهريّ في القاعة الرئيسة للموسيقى الأوركسترالية في قلب العاصمة السويدية ستوكهولم، والتي تعدّ منذ أن افتتحت عام 1926 مركزاً للأوركسترا الملكية، حيث تتمّ فيها أيضاً مراسم تسليم «جائزة نوبل»، و«الجائزة القطبية للموسيقى» التي تنظّم فعالياتها سنوياً أسرت قاعة الاحتفالات هذه بنمطها الكلاسيكي الحديث عشّاق الإيقاعات الملتزمة، حيث اكتست قاعة الحفلات الموسيقية الأزرق بصبغة جميلة وأنيقة، حضرت فيها الرومنسية بكل أشكالها، وحضرت معها الرقّة في الأداء، ما بين جمال الصوت وانتقاء الأغنيات، لتتشكّل لوحة فنية كاملة تليق بقيصر الأغنية الفنان كاظم الساهر.
ضجّت أرجاء القاعة بالتصفيق والتهليل في أمسية غنائية لأجمل ما أنتج من موسيقى شامية وعراقية خلال العقود الماضية. قصائد نزارية معطّرة بموسيقى الساهر وصوته، في لحظات رومنسية انسابت معها الكلمات وتجاوب معها الجمهور الذي حضر بأعداد استثنائية من جنسيات وأعمار مختلفة، اجتمعت على حبّ هذا الفنان وأغانيه.
جمهور الأغنية الجميلة، الذي أصبح يعاني اليوم من آلام الاغتراب، جاء إلى الساحر ليأخذه إلى آفاق أخرى، فكان هذا الحفل فرصةً مهمة لتهدئة نفوس المغتربين المتعطشين لأجواء تعيدهم إلى ذكريات الوطن، للتخفيف من معاناة الغربة لما تمثله من آهات ومرارات قاتلة لا يشعر بها إلا من عانى من ويلاتها، وما تحمل في مكنوناتها من أعباء وكآبة مفرطة في بلد بارد مثل السويد. فالصوت الشجيّ الذي يتمتع فيه قيصر الأغنية ساعد بلا شك في تسكين معاناة المغتربين واشتياقهم لبلادهم الأمّ، وتجلى هذا واضحاً في الفرحة التي ارتسمت في عيون الحاضرين عند رؤيتهم فنانهم.
غنّى الساهر للحبّ والوطن، كما كان الجرح العراقي حاضراً في سهرة سفير «يونيسف» للنوايا الحسنة، حيث دوت صرخته عالياً فاهتزّت لها القاعة في ليلة ولا كلّ الليالي، فطال الغناء وعانق صوت الساهر أرواح جمهوره الذي تجاوب مع كلّ أغانيه.
حفل كان فيه الكثير من التميّز، ورقي فنيّ معهود مع حرص شديد والتزام عالٍ بما يقدّمه القيصر من رسالة ثقافية دامت لأكثر من ثلاثة عقود، بخلطة شامية ـ عراقية قوامها النجاح، ومزيج بين أعمال شعرية رائدة ومؤلفات موسيقية عبقرية خلقت القصيدة المغنّاة التي ترتقي إلى أعلى مستويات الكلام واللحن والإحساس، والتي تفنّن القيصر بأدائها، لتعبر حدود القارات وتحاكي قلوب الملايين.
«لأني أحبكم أغنّي»، فغنّى السلام وغنّى المرأة لتكون بجمالها ورقّتها حاضرة بصوته. اختيار قصائد ترتقي في مستوى المستمع ليكون فيها شيء من التميّز، جعل الساهر يتعمّق في روح الكلمة أكثر، ويتعمق في روح الموسيقى أكثر، وتذهب القصيدة من القلب إلى القلب لتلامس الروح فتنثر حباً في قلوب عشاق القيصر برومنسية ممزوجة بألم الشوق إلى رائحة تراب الوطن.
وكعادة الساهر عندما يمتع جمهوره، يُخرج مسرعاً من المسرح حتى تخفّ حالة الهستيريا التي أصابت البعض بعد خروج كاظم من دار الأوبرا، ومحاولة اللحاق به إما لمصافحته أو التقاط الصور معه. وبسبب الحالة الأمنية المشدّدة، لم نتمكن من تسجيل لقاء صحافي معه.
تبعنا القيصر لحضور حفلته في الدنمارك، في «دار أوبرا كوبنهاغن» التي يقع بناؤها مقابل قصر الملكة، والتي شيّدت لتكون مهداة إلى الملكة مارغريت الثانية، وتعدّ من أغلى دور الأوبرا التي دُشنّت في العالم، ليدلّ ذلك على الذوق الراقي الذي يفرضه كاظم على عشاقه في الاستماع إليه من على المسارح فقط، بعيداً عن طقطقة الصحون والملاعق.
وكسابقه، كان الحفل ناجحاً بكل المقاييس. وهذا دليل على رسوخ فنّ كاظم الساهر في وجدان محبّيه، وقدرته على الاحتفاظ بصورة راقية عن الفنّ الأصيل والثقافة السورية، التي عشقها المستمع السوري وبات على علاقة سمعية متينة بين الأغاني والألحان العذبة. وبمودّة أكبر مع القصائد والكلمات التي يسهر عليها الساهر كثيراً ليترجمها بالحبر على الورق.
قيصر الأغنية ارتقى عالياً بإبداعه وأدائه المتميز فوق مسرح كوبنهاغن، في ليلة من العمر مليئة بالحماسة والتفاعل، من خلال الأغاني الرائعة التي اختارها، فأمتع جمهوره الذي ردّد معه الكلمات والألحان، وتناغم مع القيصر في ليلة من العمر باتت، ومن دون أدنى شك، محفورة في الذاكرة.
صباح اليوم التالي، كانت الدهشة كبيرة عندما رأينا القيصر في بهو الفندق حيث نزلنا في تلك الليلة، كان يلتقي بعض أقاربه. حاولنا استغلال هذه الفرصة لإجراء لقاء صحافيّ معه، واحترمنا قراره الابتعاد عن اللقاءات الصحافية، إذ بادرنا بلهجته المحبوبة: «أرجوكِ أرجوكِ أرجوكِ، أبعديني عن اللقاءات الصحافية»، أخبرناه كم يحبه جمهوره المستعد للحلق به حتى لو إلى الصين، فأجاب مبتسماً: «ان شالله تكونوا تونّستوا؟».
هل يدرك القيصر أنّ حضوره فقط يستطيع نقلنا من عالم إلى آخر ملآن بالسحر والرومنسية؟ لذلك، من الطبيعي أن يبقى الحفل حديث الناس لفترة طويلة، وأن يطاول الحديث جوانبه كلّها، من أداء مبهر وراقٍ، وتجاوب غير مسبوق من قبل الجمهور مع فنان مثل كاظم الساهر، النبيل بصوته وبراءة محيّاه التي تلامس في بعض الأحيان… الطفولة!