تهجير المسيحيين في الموصل… رؤية شرعية
الشيخ جمال الدين شبيب
في كلّ نازلة من نوازل الأمة وكلّ خطب جلل من خطوبها، ندرك الجهل الذي يسيطر على الذهنية وغربة الإسلام في مثل هذه التنظيمات المتطرفة وفكرها العاطفي الذي يبتعد بمتحمّسيها عن الإسلام الحنيف وسماحته، وهي تحسب أنها تحسن الصنع وأنها تقترب من الله جلّ وعلا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا 103 -105 سورة الكهف.
ومن أكبر الكوارث التي شوّهت هذا الدين العظيم وجاءت على خلاف ما كان عليه من قواعد التسامح والتعايش، ما يسمّى تهجير المسيحيين من بلادهم، فهذه المرة تعمل بعض التنظيمات المتطرفة على تهجيرهم من العراق ومن الموصل تحديداً وغداً سيطالب المغامرون بتهجيرهم من مصر وهكذا، وتسليطاً للضوء على هذا التهجير القسري لا بد من دراسة الجوانب الشرعية التي نخلص بنتيجتها إلى حرمة هذا الفعل شرعاً وإثم من يقوم به.
ومن أكثر ما يثير العجب السكوت الدولي عن هذا الجرم الشنيع الذي لا يقره دين ولا عقل وينافي شريعة حقوق الإنسان والقوانين الدولية… فضلاً عن مجافاته لتعاليم الإسلام، وكأن هذا السكوت يعطي مؤشراً على عبث الأيدي الاستخباراتية في مصير شعوبنا العربية وتفتيت بلادنا العربية ونشر الفوضى في بلاد المسلمين
كما برزت دعوة الرئيس الفرنسي هولاند وقبله ساركوزي المسيحيين العراقيين للعيش في أوروبا، بحجة أنّ مكانهم الطبيعي في غير المشرق، ونسي هؤلاء أن المسيحية كلها نزلت على أهل المشرق وأن مهبطها على سيدنا المسيح عليه السلام كان في المشرق.
ولذلك لم يجد المسيحيون عبر التاريخ الإسلامي الطويل أية مشكلة في العيش الكريم في ظل الإسلام المعتدل، والنصوص كثيرة التي تدل على عدل الإسلام مع هؤلاء المسيحيين ابتداءً من العهدة العمرية وفتح بيت المقدس على يد سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليقرأ من شاء شهادة غوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب.
ويجب أن يعلم الجميع أن المسيحيين العرب في لبنان وسورية وفلسطين والأردن والعراق ومصر وغيرها مكوّن رئيسي من مكونات المجتمع العربي، وأبلوا بلاءً حسناً في قضايا الأمة الإسلامية وقدموا من التضحيات ما يشكرون عليه، وكثير منهم ناضل من أجل الاستقلال الوطني والوحدة العربية، وكثير منهم تجاوز الانحياز الديني والمذهبي وهام عشقاً في العروبة والإسلام، وتفريغ الموصل من مسيحييها جريمة كبرى لا تغتفر وخطيئة لا يقر بها الإسلام العظيم، ولا ترضاها النخب الدينية والسياسية.
وردت النصوص الشرعية بالتوصية بالقبط وهم نصارى مصر، وليس هناك مانع من الاهتمام بنصارى الموصل وغيرهم، إذ أورد الشيخ الألباني رحمه الله في «السلسلة الصحيحة» برقم: 1374 تحت عنوان: «التوصية بالقبط وسببها»: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإنّ لهم ذمة ورَحِماً»، ولا يلتفت إلى من رد على الشيخ في قوة الاستدلال بالحديث. وعلى المسلمين ألا ينسوا سيدتنا هاجر أم إسماعيل وكذلك أم سيدنا إبراهيم مارية فهما قبطيتان، وألا ينسوا سيدتنا صفية بنت حيي بن أخطب سيد اليهود، فأهل الكتاب لهم رحم ونسب، فيهن من أمهات المؤمنين وكفى بذلك شرفاً.
ويفهم من هذا الحديث أنّ الإسلام لا يشيطن هذه الأجناس ولا يكرهها، وقد فرض عليهم الجزية مقابل فرض الزكاة على المسلمين، بل إنّ الزكاة لا تسقط عن المسلم في حين أنّ الجزية تسقط إن كان في المسلمين ضعف وهوان أو كان الكتابي فقيراً، فهي مقابل حمايته وحفظ ضروراته الخمس، وارتضى الإسلام منهم هذا حتى يدخلوا في الإسلام عن قناعة واختيار وليس جبراً.
على مر التاريخ الإسلامي لم يطرد المسلمون النصارى ولم يفرغوا الأراضي من أهاليها، وعاش النصارى واليهود في ظل الحكم الإسلامي الذي وضع ضوابط عيشهم في ما يسمّى بجزيرة العرب فقط، بخلاف غيرها من بلاد المسلمين كالعراق ومصر والشام، وقد فصل العلماء في ذلك اعتماداً على شواهد ومرويات تثبت وجودهم بحسب الطرق الشرعية.
نص العلماء على عدم شرعية معاقبة آحاد طائفة بسبب ما يقترفه بعض أفراد تلك الطائفة، فلا تزر وازرة وزر أخرى، وليس من العدل والتقوى المأمور بهما أن يحل العذاب بمن لم يقترفه، قال العلامة ابن كثير في أحداث عام 767هـ.
وبالفعل انطلقت الحملة الصليبية القبرصية يقودها بطرس الأول بنفسه ووصلت إلى الإسكندرية يوم الأربعاء 22 محرم عام 767هـ كان من صدى الحملة أيضاً عند المسلمين، مما دفع السلطان الأشرف لأن يصدر قراراً بالقبض على نصارى الشام ومصر كلهم، وأخذ ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولتجهيز جيش جديد وأسطول بحري لغزو قبرص واستنقاذ أسرى المسلمين.
وعلى رغم أنه قرار سلطاني وبحق النصارى الذين قام إخوانهم في الصليب بارتكاب تلك المجزرة، إلاّ أنّ أهل العلم ومنهم العلاّمة ابن كثير، قد رفضوا هذا القرار وأوضحوا أنه لا يجوز شرعاً. وهذا موقف أهل الإسلام المنصف.
وكذلك يستحضر في مسألة فرض الجزية على المواطنين اليوم فهم الصحابة رضي الله عنهم للجزية وإسقاطهم لها، في مواقف تؤكد أننا في حالة يجب أن يراعى فيها ضعف المسلمين وتشويه الإسلام ومن قاتلنا ومن لم يقاتلنا ومن قاتل معنا.
وبخاصة أنّ سيدنا عمر بن عبد العزيز قال عبارته المشهورة: «إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً»، لما رأى بعض الولاة أن أهل الذمة يدخلون في الإسلام هرباً من الجزية، لم يقبلوا منهم ذلك.
وبناء على ما تقدم فإننا نرى أن تهجير نصارى الموصل جريمة يبرأ منها الإسلام ولا يقرّها أهله المنصفون العادلون. ورحم الله خلفاء الإسلام الذين أثبتوا فهمهم للدين ومنهجهم الإنساني الذي يتفق مع قواعد الإسلام فبلغوه ولم يصدوا عن سبيله بمغامرات واجتهادات ساذجة، وكان الله في عون المسلمين والله من وراء القصد.