سياسة أوباما الخارجية ومستقبل الشرق الأوسط 2/1
كتب شاس فريمان
في العرض التقديمي لـ«الكابيتول هيل» حول مؤتمر مجلس سياسة الشرق الأوسط:
تعيّن على الولايات المتحدة منذ فترة قصيرة الجلوس لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. والسبب الرئيس في هذا، الفوضى التي يتخبّط فيها الشرق الأوسط وكذلك نحن، من دون بوادر حلحلة تلوح في الأفق. وأودّ، في الوقت القصير المخصّص لي، التحدّث عن ديناميات المنطقة في محاولة منّي لاستنباط اقتراحات حول ما يجب أن يحصل، وما أدرك أنه لن يحدث.
كي نبدأ، ينبغي أن نكون صادقين وأن نتمتع بجرأة الاعتراف بأن شؤون الشرق الأوسط في حالة يُرثى لها. في مصر، والعراق، و«إسرائيل»، والأردن، ولبنان، وفلسطين، وسورية، وإيران، والخليج الفارسي، وشبه الجزيرة العربية، وأيضاً أفغانستان. وهذا ليس نتاجاً لديناميات المنطقة، بل أيضاً لقدرتنا على التفكير والتصرّف بطريقة استراتيجية.
انتهى نظام الثنائية القطبية الذي دمغ فترة الحرب الباردة مع مزيج من التقلّب والإنكار والتنافر الاستراتيجي. لكن افتراضات الولايات المتحدة الخاطئة وغير الواقعية ساعدت إلى حدّ كبير في خلق الفوضى الحالية السائدة في الشرق الأوسط. لا نفشي سرّاً لو قلنا إنّ السياسة الأميركية سياسة همجية ومختلّة وظائفياً. إذ نجد أنّ النخبة السياسة الخارجية تتأثر بشكل كبير بالفقاعات الإعلامية وتمارس سياسة إخبار الروايات على التحليل السليم للأحداث، تخلط العقوبات العسكرية مع المواقف الدبلوماسية، وتتصوّر أن الطريقة الفضلى للتعاطي مع كره الأجانب، تتمثل بالاستعانة بالآليات العسكرية الجوية لإبادتهم مع عائلاتهم وأصدقائهم. لدينا قادة عاجزون عن ممارسة القيادة، ومشرّعون لا يفقهون ماهية التشريع. ولدينا ـ في المدى المنظور ـ حكومة غير قادرة على اتخاذ قرارات مناسبة أو حتى تمويل تنفيذها. فمن يبحث في الخارج عن سياسات إنقاذية تقودها الولايات المتحدة، نزفّ له بشرى خيبة الأمل التي سيتلقاها حكماً.
صرّح الرئيس أوباما في «وست بوينت» بما يلي: «لدينا جيش لا نظير له»، ثم أضاف: «لا يمكن أن يكون التدخل العسكري المكوّن الرئيس أمام كل مشكلة نواجهها. فامتلاكنا أفضل مطرقة لا يعني بالضرورة أنّ كل مشكلة هي عبارة عن مسمار». وهذا صحيح إلى حدّ كبير، إذ يبدو أنّ سياسة عرض العضلات المتمثلة في «المطرقة والمسمار» لم تؤتِ ثمارها المرجوّة، بل عزّزت من انتشار الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. فلم تنجح براعتنا العسكرية الفريدة من نوعها في العالم، في تحسين الأوضاع في غرب آسيا، أو في أوروبا الشرقية أو في أيّ مكان آخر. حتى أنّ العمل السرّي السياسي في هذه المناطق أثبت أيضاً أنه ليس في حالٍ أفضل.
أمّا السؤال الذي يطرح نفسه هنا، فهو التالي: «ما هي البدائل الحالية المُتاحة لدى الرئاسة الأميركية لسياسة المطرقة العسكرية والصكوك ذات الصلة الحركية؟» والإجابة البديهية على سؤال كهذا: اعتماد سياسة مفكّ البراغي الدبلوماسية أو غيرها من الوسائل المؤثرة كالمساعدات والإعانات.
لا بدّ أنّ هناك سبباً كي تكون وزارة الخارجية أصغر لا بل أضعف قسم تنفيذي في حكومتنا، فنادراً ما تلجأ الولايات المتحدة إلى الدبلوماسية في حلّ خلافاتها مع الدول الأخرى. المحاربون الدبلوماسيون يشكّلون ورقة رابحة في أيّ وقت وفي ظلّ أيّ مشهد، وحتى لو لم يقوموا بذلك، فإنّ التدابير القسرية التي تتخذ عادة، كفرض العقوبات والقصف، هي تلبية عاطفية مباشرة وأقوى من التعاطي بدبلوماسية.
وبعيداً عن انعكاس وجهة نظرنا العسكرية، نحن مفلسون. سعى قادتنا العسكريون ـ لا دبلوماسيونا ـ وراء المال.
أثبتت التجارب مع وزراء خارجية الدول الأجنبية أنه ما من وجود لبدائل استراتيجية أو لتأثيرات أخرى مماثلة. فمن الصعب التفكير بأيّ مشروع أميركي قابل للحياة في الشرق الأوسط. وهذا يتضمّن سياسة الولايات المتحدة في «إسرائيل» وفلسطين ومصر، تعزيز الديمقراطية، الإرهاب الإسلامي، الاستقرار في الهلال الخصيب وبلاد الشام، إيران والخليج. ودعوني أمرّ بشكل مختصر وسريع على هذه القائمة.
مُنيت جهودنا التي بذلناها على مدى أربعة عقود في تثبيت قيام دولة «إسرائيلية» في الشرق الأوسط، بالفشل الذريع. وفي المرحلة الأخيرة من الكوميديا التراجيدية لما يسمّى بـ«عملية السلام»، بدأ التفاوض مع الفلسطينيين بشأن تقرير المصير، لا مع «إسرائيل» حول شروط الاستسلام الفلسطيني كما كان مخطّطاً له. يُفترض بنا من هذا المنطلق، أن ننعى جهود الولايات المتحدة لإحلال السلام في «إسرائيل»، التي لم تؤمن بها أصلاً… فلْندعها ترقد بسلام!!!
منذ البداية، استخدمت «إسرائيل» سياسة «عملية السلام» لإلهاء العالم عن بنائها المستوطنات وتوسّعها اللاشرعي وقضمها المتزايد للأراضي الفلسطينية. هذه السياسة جعلت من المستحيل إقامة علاقات جيدة وتعايش سلمي مع الفلسطينيين ومع جيران «إسرائيل» العرب. استنتجت الولايات المتحدة ـ في نهاية المطاف ـ أنّ «إسرائيل» في كل ما تقوم به من سياسة انتهازية قد وضعت نفسها في موقف لا تُحسد عليه أبداً. أربعون سنةً من السياسة الدبلوماسية الأميركية من جانب واحد، بهدف تحقيق قبول وإجماع دوليين وعالميين بـ«إسرائيل»، يبدو أنها قد أثمرت نتائج عكسية: ازدياد العزلة الدولية والازدراء العام للدولة اليهودية.
لا يجدر بنا بعد الآن الاستمرار بتغطية تصرّفات «إسرائيل» التوسعية وسوء المعاملة والسلب المتقطّع للأراضي الفلسطينية ونبذ سكانها الشرعيين، إذ سندفع ثمناً باهظاً لسياسة كهذه على المستوى العالمي، كما في الشرق الأوسط. وقد يتزايد العنف إزاء المصالح الأميركية في الداخل والخارج. وليس على أميركا التمسّك بمثل هذه السياسة الانتحارية، بل عليها أن تعمل على حماية موقعها في الشرق الأوسط، وكذلك على ضمان بقاء دولة «إسرائيل».
يصرّ الأميركيون على أنهم يتمتعون بأسس أخلاقية في مجال السياسة. وقد أثبتت الجيولوجيا في الشرق الأوسط عموماً، لا في ما يختصّ بـ«إسرائيل» فقط، أن تعقيدات المنطقة لا تسمح بأن تُحكم من جانب واحد. ولنأخذ مساعينا وجهودنا المعلنة لتعزيز الديمقراطية مثالاً على ذلك: بذلت الولايات المتحدة جهوداً حثيثة لفرض الديمقراطية في البلدين اللذين غزتهما: العراق وأفغانستان، أو في تلك الدول التي تحتقر: فلسطين، إيران، وسورية. أما الدول الباقية فنتركها لحكامها المتوارثين، الديكتاتوريين، وجنرالات الجيش والبلطجية. وعندما تقود الانتخابات الديمقراطية في بعض الدول كمصر وفلسطين والجزائر إلى تشكيل حكومات منتخبة من قبل الشعب، تسعى الولايات المتحدة إلى تقويضها وعزلها والاستعاضة عنها بحكّام طغاة كأسلافهم السابقين. إذا كانت الديمقراطية الغاية والرسالة، فعلينا الاعتراف بأنّ أميركا ليست النبي.
نتمتع بكامل الاستعداد لتخليص المنطقة من الديمقراطيين المتعارضة سياساتهم مع «إسرائيل» ودول الخليج العربي. لكن هذه الدول خيّبت آمالنا في عدم تحقيقها الديمقراطية التي لم نكفّ عن المناداة بها. لم تثمر جهودنا في توليد أيّ مظاهر للديمقراطية. بل أطاحت بعددٍ منهم قبل منحهم الفرصة لتثبيت ديمقراطيتهم.
مصر خير مثال على ذلك، فبعد الصحوة الديمقراطية العربية وانتخاب حكومة إسلامية أثبتت عدم كفاءتها. ترزح مصر الآن تحت ظلّ حاكم عسكري مستبدّ يختلف عمن سبقوه في محاكاته البشعة لتطبيق القوانين. ولا يمكننا القيام بالشيء الكثير حيال ذلك.
يتمظهر خوف الولايات المتحدة على أمن «إسرائيل» في دعمها اللامتناهي لمصر بغضّ النظر عن شخصية قائدها أو طريقة وصوله إلى السلطة. في الوقت الذي يلتزم فيه قادة الخليج الديكتاتوريون من أصدقاء أميركا بقمع الإسلاميين في مصر. ومن الصعب التفكير بمكان تبرز فيه ـ بمثل هذا الوضوح ـ التناقضات الأميركية بين قيمها ومثلها، والتزاماتها مع الدول العميلة، ومصالحها في الحدّ من انتشار الإرهاب في مصر الحالية.
إنّه لمن المغري الاستنتاج بأنّه علينا تخطي واقع بحثنا في الديمقراطية الخبيثة وحقوق الإنسان فيما لو أردنا أن نكون واقعيين بشدّة. وإلا، فكيف نفسّر اقتراح الرئيس الأميركي إقامة شراكات متعدّدة مع قوى الأمن في المنطقة لقمع الإرهاب الإسلامي؟ إن مصر اليوم المثال الحيّ على التعاون الإقليمي في هذا المجال. وما من نموذج آخر نستطيع البناء عليه. غير أننا إذا ما رغبنا بعدم ترك أيّ منفذ للمعارضة السلمية، فإن الغالبية الكبيرة من المصريين تنحو نحو السياسة العنيفة. تحوّل هذه المخاطر البلد الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم العربي إلى أرضٍ خصبة للإرهابيين على امتداد العالم الإسلامي. هذا صحيحٌ بالطبع، فمصر ليست الحاضنة الوحيدة لأعداء أميركا.
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
فريمان هو سفير ورئيس المشاريع الدولية، مسؤول أميركي متقاعد في وزارة الدفاع، دبلوماسي، مترجم، حاصل على عددٍ من الأوسمة والجوائز العالمية، خطيب شعبيّ، ولديه خمسة كتب.