فرض النسبية الشرط الضروري للتغيير…
ابراهيم ياسين
بعد إجراء الانتخابات البلدية في لبنان، وما أسفرت عنه من نتائج شكلت صدمة للطبقة السياسية، لا سيما تيار المستقبل الذي حصد أكبر خسارة في هذه الانتخابات، وخرج أكثر تفكّكاً وانقساماً مما كان عليه قبل الانتخابات.
بعد هذه الانتخابات بدأت الأزمة في لبنان تتجه في مسار جديد، لا سيما مع اقتراب موعد انتهاء التمديد لمجلس النواب اللبناني بعد عشرة أشهر من الآن. فالانتخابات البلدية كشفت زيف وبطلان وسقوط كلّ المبرّرات الأمنية والقانونية والدستورية التي جرى على أساسها التمديد للنواب. وبات إجراء الانتخابات النيابية أمراً لا مفرّ منه ولا يمكن للطبقة السياسية تفاديه، وبالتالي بات الموضوع الأساسي الذي يشغل بال الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة والقوى السياسية على اختلاف مشاربها هو التوصل إلى قانون انتخابات جديد يحقق صحة وعدالة التمثيل في البرلمان ويضع حداً للاستئثار بهذا التمثيل من قبل الطبقة السياسية عبر قانون الستين أو غيره من القوانين التي ترتكز إلى نظام التمثيل الأكثري.
وهذا القانون الذي تطالب الأغلبية من القوى السياسية والأهلية هو القانون الذي يعتمد نظام التمثيل النسبي الشامل، وليس كما يطرح هذه الأيام في نقاشات اللجان النيابية النظام المختلط بانتخاب 64 نائباً على أساس النسبية، و 64 نائباً على أساس الأكثري…
ويبدو من الواضح أنّ أطرافاً أساسية في الطبقة السياسية لا سيما تيار المستقبل يخشون اعتماد نظام التمثيل النسبي الشامل لأنه سيضعف من حجمهم النيابي وسيؤدّي إلى مجيء نواب جدد إلى البرلمان ينتمون إلى القوى المعارضة لتيار المستقبل تحديداً، وهذا سيؤدّي بالضرورة إلى إحداث تغيير في المعادلة السياسية ينعكس على صعيد إعادة تكوين السلطة السياسية، إنْ كان لناحية اختيار رئيس جديد لتشكيل الحكومة أو لناحية تركيبة الحكومة، وقبل كلّ ذلك لناحية انتخاب رئيس جديد للجمهورية الذي إذا لم يجر اتفاق عليه قبل الانتخابات النيابية، فإنّ المجلس النيابي الجديد بتوازناته الجديدة هو الذي سينتخب الرئيس وهو أمر بالطبع لن يكون لصالح فريق المستقبل وحلفائه.
ولذلك يبدو أنّ الصراع على ماهية قانون الانتخاب سيكون هو النقطة الأساسية التي تتصدّر اهتمامات القوى السياسية على اختلافها، ولا شك بأنّ القوى المتضرّرة من إقرار قانون على قاعدة التمثيل النسبي الشامل سوف تسعى بكلّ ما أوتيت من قوة لمنع إقراره عبر طرح مشاريع مقابلة تستهدف إجهاض إقرار قانون التمثيل النسبي، وهو ما ظهر من خلال طرح قانون التمثيل المختلط والعمل على تفصيل الدوائر على نحو يحول دون إحداث أيّ تغيير جوهري في حصة القوى السياسية النافذة في السلطة السياسية، لا سيما تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي.
وإذا كانت هذه الأطراف تصرّح في العلن معارضتها إجراء الانتخابات على أساس قانون الستين، فلأنها لا تريد أن تظهر على أنها متصادمة مع إرادة الأغلبية الساحقة من اللبنانيين التي تعتبر هذا القانون مصدر الخلل الكبير في النظام الانتخابي الذي يمنع الكثير من الشرائح الإجتماعية من أن توصل ممثليها إلى البرلمان. وطبعاً فإنّ هذا يطرح على القوى والفاعليات السياسية والأهلية التي تطالب بإقرار قانون النسبية الكاملة مهمّة التصدّي لمحاولات أطراف الطبقة السياسية إيصال اللبنانيين مجدّداً إلى موعد إجراء الانتخابات من دون الاتفاق على قانون جديد يحقق تطلعاتهم بالتغيير، وبالتالي جعل قانون الستين أمراً واقعاً تحت عنوان أنه ليس هناك من قانون آخر لتجري الانتخابات على أساسه.
ولأنّ هذا الخطر قائم وحقيقيٌ فإنّ على القوى المؤيدة للنسبية تجميع طاقاتها والتحرك بفعالية على مختلف المستويات لممارسة الضغط السياسي والشعبي لإجبار الطبقة السياسية على إقرار قانون النسبية قبل دنو موعد إجراء الانتخابات المقبلة، ولا شك أنّ تحقيق ذلك يستدعي من جميع القوى والأحزاب السياسية المتطلعة إلى التغيير أن تتخلى عن ذاتياتها، وأن تكون أكثر مرونة من أجل تكوين ائتلاف وطني واسع يشمل كلّ المؤيدين لقانون النسبية من مختلف التيارات والانتماءات، إنْ كانت جزءاً من الطبقة السياسية أو من خارجها لأنّ إنجاز هذه المهمة وفرض النسبية الكاملة هو الشرط الضروري، لا بل الوحيد، الذي بات يشكل المدخل الحقيقي لأيّ عملية تغيير في إعادة إنتاج السلطة السياسية في لبنان، وبالتالي تحقيق تطلعات اللبنانيين بالتغيير وإقامة دولة العدالة الاجتماعية والتنمية الإقتصادية ومحاربة الفساد الذي بلغ مستوىً لم يسبق له مثيل في تاريخ لبنان بسبب الحماية السياسية التي يتمتع بها الفاسدون في مؤسسات الدولة، والذين هم في الأصل موالون لبعض أطراف هذه الطبقة السياسية الفاسدة التي تقف عقبة أمام أيّ مساءلة أو محاسبة لهؤلاء، وتعطل دور أجهزة المراقبة والمحاسبة وكذلك القضاء، وبالتالي تقف عقبة كأداء أمام أيّ تغيير ينشده اللبنانيون للخروج من دوامة الأزمة التي يكتوون بنارها منذ أكثر من عشرة أعوام والتي أدّت إلى إنهيار كبير في قدرتهم الشرائية وتفاقم أزماتهم الاجتماعية وكادت أن تؤدّي إلى إنهيار سلمهم الأهلي.