المصالح الاقتصادية التركية في ميزان السياسة الخارجية
د. هدى رزق
طرّح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، موضوع التغيير في السياسة الخارجية التي كانت موضع انتقاد لدى النخبة السياسية، التي أشبعت الموضوع بحثاً وطرحت أسئلة حول ماهية التغيير في السياسة الخارجية التركية، هل سيكون كاملاً أيّ تغيير سياسي وايديولوجي أم سيكون تعبيراً عن براغماتية تقتصرعلى المصالح التركية الاقتصادية، التي تضرّرت في الحقبة الماضية وأظهرت تحوّلاً إلى الطائفية والتدخلية، في ما يتعلق بالحرب الدائرة في سورية، محاباة وتحالفاً مع المملكة العربية السعودية وقطر وتحدّياً علنياً لإيران في اليمن، وسورية، وإغلاقاً للأبواب مع مصر وعداوة علنية ومتبادلة مع روسيا.
أتت رسالة يلدريم من أجل إعادة كسب الأصدقاء بمثابة إعلان عن خطوات كانت قد اتخذت في عهد سلفه احمد داوود اوغلو بداية شهر كانون الثاني 2016، من أجل إعادة العلاقات مع «إسرائيل» مع العلم أنّها كانت مستمرة تجارياً. استطاعت واشنطن لعب دور الواسطة بين «إسرائيل» وتركيا عبر نائب الرئيس الأميركي جو بايدن من أجل إعادة العلاقة بين الحليفين التاريخيين وتوصلت إلى سلة من القرارات تضمّنت اعتذاراً وتعويضات من قبل «إسرائيل» إضافة إلى السماح ببناء مستشفى تركي في غزة وتجهيزه، وتأمين تركيا كهرباء 24 ساعة لقطاع غزة بالشراكة مع ألمانيا والسماح للبضائع التركية بالدخول إلى القطاع من ميناء أشدود. حصل كلّ ذلك بموافقة مصر إذ لعبت «إسرائيل» دور الوساطة بين الطرفين.
أما على الخط الروسي التركي فأسفرت رسائل التهنئة من قبل الرئيس اردوغان ورئيس وزرائه يلدريم، إلى الرئيس بوتين ورئيس وزرائه ميدفيديف يوم 14 حزيران، عن ردّ إيجابي مشروط باتخاذ تركيا بعض الخطوات أي الاعتذار والتعويض، وتمّ في حينها إعلان السفير الروسي لدى أنقرة أندري كارلوف قبوله دعوة أردوغان لحضور عشاء إفطار دُعي إليه مع أعضاء السلك الدبلوماسي في 15 حزيران. سرعان ما ظهرت بوادر إيجابية على الصعيد الاقتصادي إذ سمّح ميدفيديف لبعض الشركات الروسية مرة أخرى، بتوظيف العمال الأتراك بعد المرة الاولى في 15 أيار دون قيود، كذلك دعّت موسكو أنقرة إلى اجتماع اقتصادي مقرّر عقده في تموز في سوتشي، وقال نائب وزير الخارجية الروسي فاسيلي نيبنزيا أنه من المتوقع حضور تركيا اجتماع «التعاون الاقتصادي» ويمكن أن يكون هناك محادثات بين وزراء الخارجية. تعتبر هذه المؤشرات بداية انفتاح اقتصادي وسياسي وعلامة على تليين الموقف السياسي من قبل الطرفين بعد الوساطة الكازاخستانية، فهل سيجد الطرفان حلاً لشروط بوتين بالرغم من النقد الذي توجهه تركيا للموقف الروسي، وتتهم القوات الروسية بقصف المدنيين في شمالي حلب. بينما يرى وزير الخارجية الروسي أنّ تركيا لا زالت تفتح حدودها لسلاح الإرهابيين.
وفيما تمكنّت أنقرة من تقليل كمية النفط الخام التي يتمّ شراؤها من روسيا إلى حدّ كبير، بفضل الاعتماد على إيران كمورد للنفط. استطاعت إيران لعب هذا الدور بسبب قفزة ملحوظة في إنتاج النفط الإيراني الذي حدث منذ كانون الثاني2016 أيّ بعد الاتفاق النووي وعلى الرغم من أنّ العراق كان مورد النفط الخام إلى تركيا عام 2015، وكان الاعتماد على النفط الايراني فقط 20 في المائة وعلى الروسي 19 في المائة. ارتفع بداية عام 2016، 23.5 في المائة وانخفض من روسيا في الربع الأول بنسبة 10.5 في المائة.
تريد تركيا شراء الغاز الإيراني والحصول على عقود لشركات تركية وتطمح إلى المزيد من الأعمال التجارية في إيران، لكسب عقود إعمار ورفع التعاون الاقتصادي إلى 30 بليون دولار.
لكن تبقى سورية هي المشكلة الأكبر، إذ يمكن لطهران أن تطلب تنازلات من أنقرة في هذه الموضوع، لا يبدو الرئيس رجب طيب أردوغان في صدد اتخاذ خطوة إلى الوراء في سورية لغاية اليوم بالرغم من طموحاته الارتباط الاقتصادي بايران. أتى توضيح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بالإصرار على موقف تركيا من النظام في سورية وعدم إرسالها أيّ إشارة بشأن موقف موحد من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ليوضح لحلفائه أن لا تراجع في الموقف السياسي.
تسود البراغماتية المصالح الدولية لا سيّما في محاولة فصل الاقتصاد عن السياسية، هذا الفصل الوهمي لا يمكن إلا أن يكون مؤقتاً بين هذه البلدان المتجاورة المرتبطة مع بعضها في مصالح حيوية.
في هذه الأثناء عبّر بعض القادة الأوروبيين عن استيائهم من الصفقة التي قامت بها المستشارة الألمانية انجيلا ميركل مع تركيا، بشأن اللاجئين مقابل إلغاء تأشيرة سفر الأتراك إلى أوروبا وتقديم مساعدة مالية. وكان لتصريح ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني في معرض تطمينه البريطانيين وتشجيعهم على التصويت للبقاء في الاتحاد الاوروبي بقوله إنّ قبول تركيا في الاتحاد لن يحصل ولو بعد 3000 عام وقع الإهانة على الأتراك، فيما لاقاه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي اعتبر أنه لا يمكن حتى التفكير بموضوع قبول تركيا في عضوية الاتحاد بعد لقائه المستشارة الألمانية آتيا من موسكو الأسبوع الماضي.
ترى المعارضة التركية أنّ التطورات في الداخل تشجع الأوروبيين على هذه التصريحات، بسبب تراجع الدولة الديمقراطية بعد قيام الحكومة الجديدة التي تظهر تزايداً في الاتجاه السلطوي بعيداً عما تعهّد به رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم من اتباع أعلى المعايير الديمقراطية. فالأحداث التي تتوإلى تكفي لإظهار العكس تماماً. لا سيما انتهاك حرية التعبير، حيث تمّ اعتقال اثنين أحدهما ممثل مراسلون بلا حدود والآخر رئيس منظمة حقوق الإنسان بسبب قيامه «بدعاية للإرهاب». كذلك جرى طرد أستاذة من الجامعة بعد اتهامها بـ»إهانة» الرئيس أردوغان خلال محاضرة، الأمر الذي جعل البروفسور كريستوف نيومان يقدم استقالته من جامعة بيلجي في اسطنبول. تضامناً من أجل حرية الرأي، فيما اعتبرت المعارضة أنّ اطلاق سراح 10 من المشتبه بهم، والذين كانوا قد حكموا بأربع سنوات بسبب هجومهم على جريدة «حريات» في 8 أيلول 2015 في العاصمة أنقرة، إفلاتاً من العقاب لا سيما انّ الجناة ينتمون إلى جمهور العدالة والتنمية، كذلك أثار ردّ فعل الرئيس أردوغان على هجوم مجموعة من 20 شاباً بالعصي والزجاجات، على نادٍ موسيقي يقدّم الكحول خلال شهر رمضان، نقمة المعارضة بسبب تبريرة العمل تحت عنوان ضرورة مراعاة مشاعر الأمة مع إدانة الفعل الغير ديمقراطي. واعتبرت أنّ هذه الشعبوية الاردوغانية هي سبب الاستقطاب الحادّ في الشارع بين الإسلاميين والعلمانيين.
يراقب الأوروبيون هذا التراجع في الديمقراطية التركية، فيما يتحدى أردوغان الاتحاد ويرفض تعديل قانون الإرهاب، ويتهم الغرب بـ»الاسلاموفوبيا».