إلى شهداء الحزب وأبطاله في الثورة الانقلابية… ألف تحية وكثيرٌ من الوفاء
عن الجزء الثاني من مجلّد «حوار مع الذاكرة» للأمين غسان عزّ الدين، هذه المعلومات التي تدين عهداً أسود، وتضيء لأجيال الحزب ومضات من نور.
وقف الأستاذ يوسف السودا 1 في المحكمة، وفي يمناه وثائق مزوّرة مترجمة إلى لغات أربع، وفي يسراه العلم اللبناني الممزّق والذي اخترق الرصاص أرزته. وقف وصاح بصوته المدوّي: مَن ذا الذي يثير الفتنة الطائفية وغرائزها، أهؤلاء الذين جمعوا بين الطوائف في وحدة روحية اجتماعية مثالية تتجلّى في قفص الاتهام كما في الخارج، أم الذين هدروا أموال الشعب لتضليل الشعب بالتزوير وإثارة الغرائز البدائية ليجنوا منها غاية حقيرة وثمناً رخيصاً؟
كانت الأجهزة قد زوّرت الوثيقة، وخلقت قصّة العلم الممزّق وانكشف ذلك للنيابة العامة نفسها فاعترفت ببُطلان هذه الوثيقة. كما أقرّت المحكمة رسمياً إلغاءها وسقوطها لثبوت تزويرها. على رغم ذلك تُرجمت إلى لغات أربع ووُزّعت على سفاراتنا في الخارج وأمرت بتوزيعها على جميع المهاجرين.
نصّت الوثيقة المزوّرة على ما يلي: كلّ من آمن بالمسيح فهو كافر، وكل من آمن بمحمد فهو أكفر، وكل من آمن بلبنان فهو ليس منّا.
لسنا بحاجة إلى تعليق على النصّ. التزوير الثاني تفتقت عنه عبقرية الأجهزة المحترفة، إذ تمّ تصوير كدسات من العملات الأجنبية ونُشرت الصور في الجرائد، وأعطيت تعليمات للأجهزة تشدّد على ضرورة وصمنا بعلاقات خارجية مهما كلّف الأمر. لكن هذا التزوير السخيف انفضح أمره أيضاً كما انفضح أمر التزوير السابق، ولم يستطيعوا، على رغم المحاولات اليائسة أن يصمونا بهذه التهمة.
يبدأ التعذيب منذ لحظة الاعتقال. إذ كان المعتقلون يُنقلون في سيارات الشحن الكبيرة ويُربطون بالحبال ثم يرمونهم في أرض الشاحنات وينهالون عليهم بأعقاب البنادق. وعند الوصول إلى الثكنة كان على كلّ معتقل أن يدفع الضربية جَلداً لنصف ساعة أو أكثر. كانت التعليمات في ثكنة «المير بشير» على مسمع من رفقائنا ما يلي: إنكم سمعتم بجمعيات الرفق بالحيوان، لكن هؤلاء إشارة إلى الموقوفين هم أحطّ من الحيوانات فاعرفوا كيف تعاملونهم.
وقد كان التعذيب على نوعين: نوع ارتجالي يُترك لعفوية المكلّف وغريزته، ونوع منظّم يُجرى وفق الأشكال التالية: يؤتى بالرفيق فيتحلّق حوله جلّاد محترف يعاونه ثلاثة أو أربعة هواة، فينهالون عليه ضرباً بكرابيج الأسلاك الحديدية والهراوات حتى يهوى على الأرض من الإعياء. بعدئذ تُرفع قدماه على «الفلقة» أو البندقية، ويُنفّذ به «الفلق»، ثم يُصَّب الماء على قدميه ويؤمر بالهرولة عليهما. وبعدئذٍ على مشية الضفدعة، وهي المشية في وضع القرفصاء، مستعيناً باليدين، وتلحقه سياط الحديد حتى يدمي أو يغمى عليه فيُحمل ويُنقل ويُلقى في غرفته المحشورة بالنزلاء حشر السردين في العلب. كما كان هناك تعذيب بطيء منظّم: يؤمر المعذّبون أن يواجهوا الحائط على بعد امتداد الذراعين على أن تمس سباباتهم الحائط ويقفون على رجل واحدة ساعات طويلة، وكلّما هوى أحد أو استعان بالساق الثانية أو بعدت سباباته عن الحائط تنهال عليه السياط، وهذه بعض النماذج من ألوف الحالات والقصص التي تروي ما جاء في باب التعذيب الوحشي الذي فاق حدّ التصوّر.
ويقول الرفيق سعادة الأمين الدكتور عبد الله سعادة أيضاً: وذات يوم، طلّعوني إلى بناية الثكنة الكبرى التي يقطن في مهاجعها الثمانية عشرة، ثلاثة آلاف معتقل وأصعدوني إلى الطابق الرابع حتى وصلت إلى مهجع كبير وجدت في وسطه الرفيق خليل دياب 2 كتلة من لحم عاجزة عن التحرّك، واقتادوني إلى المهجع المجاور وبدأت عملية الجَلد والتعذيب حتى تساويتُ برفيقي خليل دياب، وهذه الحالة استمرت مدة شهرين ونصف الشهر.
وقد تسببت من رمي الرفيق سعادة من درج وزارة الدفاع والتعذيب اللاحق بآلام خطيرة في سلسلة الظهر كما تسببت بعطل دائم في أعصاب الساقين، ويقول الرفيق سعادة: على رغم المحاولات المتكررة بإجراء العملية الجراحية على ظهري لإنقاذ ما تبقى من الاعصاب لم يؤذن لي حتى 12 آذار 1965، وبعد أن تمكن الشلل منّي وأصابني بالعطل الدائم. وحتى بعد العملية الجراحية في مستشفى الجامعة الأميركية اختطفوني من المستشفى على رغم إصرار الطبيب الجرّاح على حاجتي إلى البقاء فيه ثلاثة أسابيع. ولكنهم هزؤوا بالطبّ والطبيب والمريض واختطفوني من دون أن يكشف عليّ طبيب السجن أو يسأل عني، وهذه تقارير مستشفى الجامعة الأميركية تثبت ذلك. ويعتبر الرفيق عبد الله سعادة أن ما ناله من تعذيب هو المعدّل المتوسط لما ناله رفقاؤه.
على رغم كلّ ذلك واجه رفقاؤنا حملات البطش والتعذيب ببطولة عزّ نظيرها. كما أن رفقاءنا في الخارج، والمواطنين الذين كانوا يُقدمون على الانتماء، لم تجعلهم تلك الوحشية يتراجعون عن أداء القَسم، ولا أن ينكفئوا عن الحزب. على العكس، كانوا أكثر تصميماً وأكثر جرأة وأكثر رغبة على الانتماء.
هوامش:
1 يوسف السودا: من ألمع المحامين الذين تولّوا الدفاع في المحكمة العسكرية.
2 خليل دياب: من بلدة «عدبل»، تولّى في الحزب مسؤوليات محلية وقيادية عدّة. سننشر عنه نبذة في وقت غير بعيد.