«الندم»… معادلة النجاح بحسابات جديدة
دمشق ـ آمنة ملحم
ربما لأن الماضي فقط يستحق الألوان، بل ربما لأن الحاضر صار أسود لا مفرّ من عتمته وظلامه الحالك، وربما لأن حياتنا «كانت» في الماضي أما اليوم فهي مجرّد أيام تمضي من دون نبض. ربما بناءً على هذه العبارات، لوّن المخرج الليث حجّو صورة الماضي ونزع عنها الألوان في الزمن الحاضر، فحظيت تلك الصورة بإقبال ومتابعة تخطّيا باقي الأعمال الدرامية المشغولة لهذا الموسم، مع مسلسل «الندم» الذي حاك نصّه المبدع السيناريست حسن سامي يوسف بخيوط نُسجت دفء الماضي، عبر شخوص عاشوا الثراء من دون تكلّف أو بهرجة سواء على صعيد اللباس أو حتى الحوار. فلطالما ذكّر «أبو عبدو الغول» أبناءه بالفقر الذي عاشه في الصغر، وبأنه لم يخلق وفي فمه ملعقة من ذهب. وكذلك عاشوا الحب من دون نفاق، والصدق تجلّى بتصرفاتهم، والتمسك بالأخلاق انعكس في ردود فعلهم. فلم يتخلّ «سهيل» ـ على رغم شعوره الدائم بظلم مشاعر الأبوّة تجاهه ـ عن فضيلة ما تربى عليه على يد ذلك الأب وتلك الأم التي حاولت التمسك بابنها حتّى اللحظة الأخيرة، على رغم أنها لم تفلح في إعادته إلى حضنها. إلا أن نبل أمومتها لم يجعل منه سارقاً لمئات أو حتى عشرات الملايين من جيوب أبيه على رغم إدراكه أن حقه يساوي ذلك وأكثر.
تبدأ رحلة النجاح التي كلّلت المسلسل منذ حلقاته الأولى مع النصّ الذي يشدّ المُشاهد في كلّ لحظة من لحظات العمل. فلا يمكن صرف النظر عن جنون الحبّ لدى «هناء» دانة مارديني ، وأناقة «عروة»، والتزامه مع «هشام» و«ندى» الفتاة الواقعية. كما لا يمكن تخطّي ردود فعل «أبي عبدو الغول» وتسلّطه كأصحاب رؤوس المال تارة، وإنسانيته في التعامل مع زواج ابنته ومع جيران حارته الشعبية التي يواظب على تفقّدها بين الفينة والأخرى تارة أخرى. وأمومة سمر سامي التي تنطق بها عيناها وتلفظها شفتاها مقرونة باحترام جوّ الأسرة وحميميته الذي افتقدته الدراما في الآونة الأخيرة، حتى يكاد ينعدم في غالبية الأعمال التي نرى فيها أبطالاً، غالباً ما يُصرف النظر عن تواجدهم ضمن أسرة، أو حتى أدنى مستوى لجوّ العائلة.
ولكن العمل لم يحمل سمة المدينة الفاضلة، بل حمل الكثير من الواقعية في «حدّوتة» عبر حكاية سهيل الابن الذي ضلّ طريقه عن أسرته هرباً من قسوة الأب والغيرة من الأخ الأصغر. ومع «عبدو» الذي بدأت ملامح جشعه وتعلقه بالمال تظهر مع شيخوخة والده.
وتكمل رحلة «الندم» مسيرتها مع عدسة مخرج مدروسة التنقلات الحركية والزمنية حاملة التشويق لكل لقطة من لقطاتها، فما إن ينتقل الزمن من حاضر إلى ماضٍ، يجد المشاهد نفسه منشدّاً إلى الحاضر الذي اقتطعته لقطة الزمن الآخر والعكس بالعكس. كما أن كاميرا حجّو لم تفلت لحظة واحدة من مخالب ذكائها بالتقاط كلّ ما يخدم العمل من لقطات للشام بطقوسها بنهارها وليلها، ومخلّفات الحرب عليها. فكانت كاميرا ذكية سخّرت التفاصيل لخدمة مقولتها بكل ما استطاع المخرج إليه سبيلاً.
وعلى رغم أن غالبية المخرجين باتوا مكبّلين بالشللية التي تتجلّى بأعمالهم واختيار أبطالها سنة تلو أخرى، نرى حجو ماضياً في كلّ موسم على تخطّي هذه الحالة. فلا يخلو عمل جديد له من أبطال جدد على الساحة الدرامية، إثباتاً لنظريته وإيمانه بمتخرّجي المعهد العالي للفنون المسرحية، وما يحملونه من ثقافة بثّت في روحهم من روح المعهد وأساتذته الذي يثق حجو على الدوام بثمرات تخرّجت على أيديهم. فيدفع بهم إلى الواجهة من دون تردّد، لاغياً بذلك أسطورة النجم الذي لا غنى عنه، ومؤكّداً أن الموهبة لا تقف عند شخص دون آخر، وأن غياب البعض عن ساحة الدراما السورية لن يُنقص من ثراء كوادرها وتألقها بوجود النصّ المبدع وعدسة مخرج يدرك متى يقول «كش ملك» ويستبدله بملك آخر. وكان هذه السنة الفنان محمود نصر ملكاً درامياً حقاً أمام كاميرا حجّو.
«عروة»، شكّل كتلة من المشاعر والحبّ والإنسانية التي لم تغيّبها عن قلبه عبثية الحرب وسوداويتها. بل أثبت تمكّنه منها في الماضي واستمراريتها معه في الحاضر، ليؤكد مقولته «هذه الحرب اختبار لإنسانيتنا»، ولتكون شخصيته رمزاً وقدوة ربما لكثر سلبتهم الحرب حتى أدنى حدّ من الإنسانية.
ما زالت الحكاية مستمرّة، وما زال النجاح حليفها، مع توقعات لأحداث أكثر تشويقاً. فمن بدأ بهذا الرتم لن يحيد عنه، ولن يكون صعباً بمكان التنبؤ بنهايات ذكية قد تعيد إلى الدراما السورية الاجتماعية ألقها ليكون العمل وأسلوبه وحواراته درساً جديداً لصنّاع الدراما بضرورة عودة الزمن الجميل إلى ربوعها.