العلاقات التركية ــ الإسرائيلية في إطار الإستراتيجية الأميركية
د. ميادة رزوق
تمتدّ العلاقات التركية الإسرائيلية بجذورها في أعماق التاريخ، وما يؤكد على قوة هذه العلاقة، ما أعلنه الرئيس الإسرائيلي السابق عيزرا وايزمان، إبان زيارته الرسمية لتركيا عام 1994، حينما قال: «إنّ «إسرائيل» لم تنسى مطلقًا ما فعلته الإمبراطورية العثمانية حينما احتضنت اليهود قبل خمسمائة عام، بعدما طردوا من أوروبا». وفي أعقاب هذه الزيارة، تعاقبت الزيارات الرسمية بين الوفود التركية والإسرائيلية والأميركية، وبناءً عليها تم تأسيس مركز أطلق عليه مركز الـ500 عام، إحياء لذكرى توطين اليهود في تركيا، فقبل خمسمائة عام وافق السلطان بايزيد 1481-1512 ، على توطين اليهود المطرودين من أوروبا، خاصة من شبه جزيرة ايبري الواقعة بين البرتغال وإسبانيا. وبغضّ النظر عن أنّ العلاقات بين الدول لا تقوم على هذا النحو، إلا أنّ استدعاء العلاقات التاريخية الإيجابية بين البلدين يمكن أن يسهّل التقارب بين أنقرة وتل أبيب، لكن هذا لا يعني أنّ غاية السياسة التركية هي إقامة علاقات مع «إسرائيل» فقط، إنما هي وسيلة للوصول إلى المحور الغربي، والدوران في محور الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
قامت الولايات المتحدة الأميركية منذ خمسينيات القرن الماضي بدور الراعي للعلاقات التركية ـ الإسرائيلية وكان لها على الدوام الدور البارز في توثيق هذه العلاقات حتى وصلت إلى مستوى التحالف الإقليمي الذي له وظائف سياسية اتجاه دول المنطقة، بالإضافة إلى أنّها شكلت السياسة الأميركية بعلاقاتها القوية مع كلّ من أنقرة وتل أبيب ما يشبه المثلث الذي تتكامل أضلاعه ويقوم كلّ ضلع بوظيفته، ولو اختلفت طبيعة هذه الوظيفة، ولكنها تتكامل وتصبّ في النهاية في الإستراتيجية الأميركية اتجاه منطقة الشرق الأوسط.
فالجانبان الإسرائيلي والتركي هما حليفان تاريخيان للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وهنا ينبغي التذكير بأنّ تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بالكيان الإسرائيلي في آذار عام 1949، وهي أول دولة إسلامية انضمّت مبكراً إلى عضوية الحلف الأطلسي عام 1952، كما أنها أول دولة إسلامية وقعت اتفاقية أمنية في عام 1958 مع الكيان الإسرائيلي للتعاون الأمني ضدّ دول الجوار العربي والإسلامي.
تدهورت العلاقات التركية الإسرائيلية مؤخراً بسبب هجوم قوات إسرائيلية على مجموعة سفن تركية تنقل مساعدات إلى غزة في العام 2010، ولم يتمّ الإعلان عن عودة هذه العلاقة إلا خلال زيارة أوباما للمنطقة في عام 2013، مما يؤكد أهمية الدولتين ودورهما التكاملي في الاستراتيجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط، والدور الوظيفي المعهود لهما في هذه الاستراتيجية لرسم المعالم الإقليمية في الشرق الأوسط في ظلّ التطورات المرجوة في سورية واحتمالية سقوط النظام السوري وتداعيات هذا السقوط على أمن الجانبين والمنطقة.
الدلالات السياسية الإقليمية للعلاقة التركية – الإسرائيلية حاضرة بقوة في صفقة الاعتذار الإسرائيلي، وإذا كان الأمر بالنسبة للكيان الإسرائيلي طبيعياً وبمثابة سياسة مدروسة لها أهداف واضحة تتعلق باستخدام الدور التركي في المنطقة لصالح المخططات الإسرائيلية، فإنه بالنسبة للجانب التركي كشف لأزمة السياسة التركية وازدواجية هذه السياسة، فمن جهة انتهجت هذه السياسة خطاباً إسلامياً موجهاً للشارع العربي والإسلامي بغيّة كسب المزيد من الشعبية في هذا الشارع، والمساهمة في دعم حركات إسلامية من لون محدّد وتحديداً حركات الإخوان المسلمين، بغية إيصالها إلى سدة المشهد السياسي أملاً في رسم ملامح سياسية محدّدة للمنطقة. ومن جهة ثانية كشّفت عن حقيقة الدور الوظيفي لتركيا في منظومة الاستراتيجية الأميركية اتجاه منطقة الشرق الأوسط وممارسات هذه السياسة على الأرض.
قد يبدو للبعض أنّ العلاقات التركية الإسرائيلية كانت في قطيعة تامة قبل الاعتذار الإسرائيلي. والإعلان الرسمي عن عودة العلاقات بين الجانبين، وصفقة التطبيع مؤخراً وفقاً للشروط الإسرائيلية، ولعلّ مفاد هذا الاعتقاد تلك الحملات الإعلامية والمواقف التي كان بطلها بامتياز رجب طيب أردوغان الذي كان رئيس الوزراء التركي في حينها، بدءاً من حادثة دافوس الشهيرة ومروراً بأحاديثه الكثيرة عن غزة والقدس وفلسطين، وليس انتهاءً بتصريحاته عن أنّ الصهيونية معادية للسلام ومقارنتها بالنازية والتي أضطر إلى تقديم الاعتذار عنها، عندما قال إنّ تصريحاته عن الصهيونية فهمت بطريقة خاطئة. إلا أنّ الحقيقة أنه في زحمة هذه الحملات والمواقف الإعلامية ظلّت العلاقات بين الجانبين جيدة، وذلك على المستوى الاقتصادي والأمني والعسكري إلى جانب عدم انقطاع الزيارات السريّة العالية المستوى بين الجانبين والتي كان هدفها إعادة الدفء للعلاقات وعدم الشرود من فلك الاستراتيجية الصهيو أميركية، فقد جعلت الولايات المتحدة كلاً من تركيا والكيان الإسرائيلي في حاجة دائمة لبعضهما بحكم الموقع الجغرافي وتكامل الأدوار في الصراع الجاري في منطقة الشرق الأوسط منذ عقود وإلى اليوم، وما ظهر من دور لأردوغان من دور البطل المدافع عن القضية الفلسطينية والقدس والقضايا الإسلامية، لم يخرج عما هو مرسوم أميركياً، وهذا الدور التركي مدروس بدقة ويخدم السياسة الأميركية، التي تقول ليلاً نهاراً أنّ أمن الكيان الإسرائيلي قضية ثابتة وهي فوق كلّ نقاش وأولوية.
وفي المقابل ثمّة رغبة إسرائيلية بالاستفادة من الدور التركي وخاصة في ملف مدّ أنبوب لتصدير الغاز الطبيعي عبر البحر إلى تركيا ومنه إلى أوروبا، ومما لا شك فيه أنّ صفقة علاقات التطبيع ليست إلا دخول مرحلة جديدة، تطمح فيها تركيا لحجز دور إقليمي جديد بعد الفشل المتتالي والمتكرّر من جراء الدور السابق الذي لعبته، والذي أدّى من تركيا صفر مشاكل إلى تركيا صفر علاقات مع دول الجوار، بالإضافة إلى الخشية من ملف الأكراد وتنامي الإرهاب والتطرف في داخلها، والبدء بتصدع جدرانها الداخلية، لكن بكلّ الأحوال الدور السابق أو الحالي حتى مع أحاديث التطبيع مع روسيا الاتحادية في إطار المصالح الاقتصادية والأمنية المتبادلة، ليس إلا في إطار الدور الوظيفي في فلك الاستراتيجية الأميركية اتجاه منطقة الشرق الأوسط وصولاً إلى أقصى الشرق.