القدس المضرّجة.. أيقونة التاريخ الشهيد
هاني الحلبي
قيل إن سلسلة كانت تتدلّى حبلاً سرياً من السماء إلى الأرض. توصل بينهما في القدس. بها تتواصل الآلهة وروح الأرض. إنْ اقترب منها صادقٌ دنت إليه فصعد، وإنْ اقترب منه ضدٌّ، أي كاذب، ارتفعت وانعدمت رؤيتها، فيستنكر الكاذب كيف يضيع طريقه إلى السماء!؟
القدس طريقنا إلى السماء. كانت وتبقى طريقنا السماء منها إلينا ومنّا إليها. إن أصدقناها العزم والعطاء!
القدس فتحة ضوء مشرعة على بهاء مقفل. ولا عبور إليه من دون جهاد. جهاد الأنفس، جهاد الأبدان، جهاد الأموال، جهاد الأعمار، جهاد بكل ما ملكت أيادينا في عالم الأرض.
وبعد اغتصاب فلسطين كرأس جسر لاغتصاب الهلال الخصيب كله، غدتِ القدس طريقنا إلى الأرض، عنق الرحم الوحيدة للخلاص.
ليست القدس هي القضية، هي بؤرة القضية، قضية هويتنا ووجودنا التاريخي القومي بلا انقطاع مما قبل التاريخ الجلي. القدس عنوان كبير لقضية أكبر!
وقيمة القدس الروحية كرّسها التاريخ تنامى وتراكمت إنجازاته سجلاً حافلاً بالمآثر، بخاصة ما قيل عن ملكي صادق حاكمها وكاهن الرب العلي، كما تمّ وصفه، حتى قيل إن السيد المسيح أتى على رتبة ملكي صادق. فساد عدل ورخاء وسلام، بكون «مَنْ وُلِّي على عدد من الرجال كان له عقل الكل»، يمنحهم بركة وحصافة واستقامة وفرحاً واستقراراً وسلاماً عميماً. وفي هذه القيم تجلو قيمة النظام وقيمة القيادة. وإن انعدمتْ تخلخل النظام فوضى وتهالكتِ القيادة مَقودة تجرجرها الأحداث العوارض.
مجد ملكي صادق أسس مكانة القدس. وهذه المكانة نفسها أصبحت بؤرة الاستهداف الصهيوني اليهودي للقدس حصراً وبكون القدس أيقونة فلسطين السورية المشرقية. من دون مسح قدس ملكي صادق من الوجود لا يتأسس هيكل يهودي ثالث، كما يزعمون! التاريخ في خطر عظيم.
لا يمكن تجويف قيمة القدس من معناها من دون تفكيك مجدها الروحي القيمي، الذي صار يوصف دينياً منذ العصور الوسيطة، مع العلم أن الدين ليس مصدراً مؤسساً وحيداً للقيم، بل الدين، قبل أي أمر، يكرس قيماً نبيلة تمرّس بها المجتمع فصارت معاييره. وقد يعدل الإطلاق الديني هذه القيم، في ضوء وتأثير ما يلحق بهذه القيم في سياق التطبيق الاجتماعي من تهافت او شوائب او سلوكات فردية او مجموعية في سير حياة المجتمع عبر الأجيال.
كان لا بد لأي مخطط معادٍ من اقتلاع القدس من تاريخها أن يبنى على قصة. ولو تمّ اختراعها. اختراعها أبطالها، ولو كانوا قطّاع طرق، كما يثبت التاريخ عن داؤود، هذه الكلمة التي تعني قاطع طريق. فيطالعنا به التوراة نبياً. وينسب لابنه سليمان الحكمة وينسج حكايا ومعجزات لا تليق بسببية العقل، وأبجديته المنطقية التي على أساس هذه المنطقية الموسيقية التناغمية رأى فيثاغوروس جدلية الكون، وبلا تناغمه يكون فساده. فكيف في الحالة اليهودية يتأسس الكون بخرافة؟ الخرافة وحدها لامنطق الصهيونية وقصتها؟ ابتداع أبطال وأساطير واستعادة يهوه إلهاً كنعانياً مهملاً لا حضور له في البانتيون الفينيقي فيصبح إلهاً خاصاً باليهود، بينما نسيه أهل حوران لحقده وغضبه وناريته ولظى عماه. حتى الآلهة لا تقبل الغضب المدمّر، لأنها على صورة الإنسان الذي تصوّرها.
غزلُ سليمان، وإباحياته لبلقيس الموحية هوامات جنسية، عندما تم نظر المتقدّمين إليها من زاوية المقدس، غدت نشيد أنشاد! لكن إن نظر إليها من بنية تفكيكية وفنية لبدت هزيلة إزاء أسطورة الخلق «عندما في الأعالي» التي أسست نظرية العالمَين المفارقين عند أفلاطون، عالم مُثُل علوي وعالم صور سفلي.
استكملت قصة سليمان بمشروع الهيكل. ومنذ عقود تزعم مراكز البحوث الآثارية الصهيونية أن هذا الهيكل بُني فوقه المسجد الأقصى، لتنطلق منذ حوالى أربعة عقود أعمال التنقيب تحت أسس المسجد وحوله، فيبصح أسفله سردايب وأنفاقاً وتأخذ مع حركة الطبقات الجوفية والسطحية تحت المسجد وعوامل تقادم البناء تكثر التفسخات والتصدعات في بنيانه. ما يتهدده بخطر قريب. والأسوأ أن كل تلك جهود الأحافير الهائلة والمضنية لم تسفر إلا عن سقوط الأوهام الصهيونية، أن لا هيكل يهودياً لسليمان تأسس عليه مسجد قبة الصخرة ولا تاريخ يهودياً سابقاً للمسجد الأقصى قط!
لكن انعدام الأدلة اليهودية على المزاعم الصهيونية وخلو الأبحاث الأحفورية منها، قابله تحطيم وتدمير أية أدلة أحفورية غير يهودية واجهت بعثات التنقيب – التدمير، لأسس المسجد الأقصى ولكل ما صادفته أكان كنعانياً أم فينيقياً أم يبوسياً أم آرامياً وغيرها..
استهداف التاريخ استراتيجية عميقة ومؤسسة ومفصلية في الصراع على الهوية والوجود بين التاريخ السوري المشرقي والخطة الصهيونية اليهودية المعادية. وتركّز استهداف التاريخ على تسويق وهم سهولة الغنى السريع من نهب الآثار. هذا الإيهام الذي ولّد جيوش عصابات مجموعية وفردية تحطّم آثارنا وتبيد أدلته وقد تعثر على بعض الفتات وقد لا تعثر. سيان عندها سوى ما يحويه جيب الناهبين في آخر النهار. ولا شك في أن من أقدموا على هذه الجريمة لهم غطاء سياسي ما، في كل منطقة نشطوا فيها، بينما سلطاتنا المفترض أنها معنية إما متغافلة أو متواطئة أو شريكة!
أليست عصابات أميركا العربية الكردية في العراق هي التي اقتحمت المتحف العراقي لتنهب منه أيقوناته ولقاه النادرة الوجود، بُعيد اجتياح بغداد بأيام العام 2003؟ ألم تقتدِ عصابات داعش والنصرة بسلفها العصابات الصهيونية لتحطم آلهتنا وأنصابها بحجة التكفير وتحطيم الأصنام، في بابل ونمرود وتدمر وغيرها، في العراق وسورية، بكل آلة حديثة وبالتفجير، حيث كان الحجم لا يمكن تحطيمه لأجزاء تعدم بنيته وتصميمه الهندسي؟
وكثيرون هم الضباط الإسرائيليون كموشي دايان، الذين تحوّلوا جامعي تحف من مواقع حضارتنا الغنية في فلسطين والجولان ولبنان عند اجتياحه، وهناك من قال إن حصيلة حفر أحد مواقع الآثار في الجنوب اللبناني عادلت كلفة اجتياح لبنان! وبتأثير هذا التدمير الممنهج نشطت عصابات بلا خبرة خلّفها هوس تعاظم الفردية في نهب التاريخ والثروة الحضارية من مواقع أثرية عدة، لم تكتف باستعمال معاول ورفوش بل استخدمت جرافات عملاقة لتدمر كل شيء. هذا الهوس اللبناني السابق، مثله هوس في القرى والمدن العراقية خلال الاحتلال الأميركي واليوم تنشط في المدن والقرى السورية عصابات مماثلة لتدمر التاريخ والحضارة وثرواتهما.
مَن ينقذ تاريخنا القومي، ليبقى لنا دليل أننا كنا هنا، وهنا إلى أبد الآبدين باقون؟!
باحث وناشر موقع حرمون haramoon.org/ar