في ذكرى سعاده: وحدَهم الذين يحملون دمهم على أكفّهم يليق بهم حزبه
ناصر قنديل
– ككلّ عام يحيي القوميون ذكرى اغتيال مؤسّس حزبهم الزعيم أنطون سعاده. وهو إحياء فيه الكثير من التأمّل بوقفة نادرة أمام الموت بكلّ مهابته بقرار راسخ عنوانه، هي لحظة لا مكان للتردّد فيها، إما أن تحيا العقيدة وترتوي بدماء القائد، أو يحيا القائد بدم العقيدة، وقرار سعاده ليس في نفسه مجرد إباء وكبرياء وتسجيل موقف للتاريخ، وتقديم مثال يحتذى للمؤمنين بنهضة أمتهم وحسب، فهو هذا كله، لكن هذا كله لا يستحق أن يهبه حياته ودمه ما لم يكن مشفوعاً بثقة ويقين أنه يترك لتلامذته وحزبه زاداً ووقوداً لمواصلة المسيرة، يمنح العقيدة قوة دفع فلا تموت بموته، بل تحيا لأنّ حزباً أسّسه سعاده وسلّمه مفاتيح القدرة على النهوض ومواصلة السير سوف يبقى ويحيا وينتصر.
– القوميون يتأمّلون في يوم سعاده بصفاء ذهن ويقظة ضميرية مسيرة حزبهم، لأنهم تعلّموا من سعاده ومعه أنّ العقائد التي تُكتب على الورق ولا تملك أدوات تحوّلها إلى أفعال، هي نظريات في العلوم تدرّس في الجامعات وتكرَّم في دور الفكر، ويُمنح أصحابها الجوائز والأوسمة، لكنها لا تستحق الاستشهاد من أجلها، فمقياس حضور العقيدة وليس صحّتها، هو مقدار حضور الحزب وسيره بهديها، والأمة التي بشر سعاده بكونها متحداً اجتماعياً لا يعرف الفكاك، وليست حلماً رومانسياً أو دعوة لتجميع مصادر قوة وحسب، تظهر بوقائع حياتها اليومية ترابط مصائر كياناتها، من سورية إلى العراق والكويت ولبنان والأردن وفلسطين، وقبرص التي كان يتندّر الكثيرون على ربط سعاده لها بسورية الطبيعية، تظهر اليوم خطاً أمنياً ونفطياً أمامياً، منه وعبره يمكن النيل من منجزات أو تعظيم مساراتها، ويتجرأ تنظيم مثل «داعش» على كسر حدود كيانات سايكس بيكو معلناً عملياً استحالة امتلاك مشروع جدي قادر على الفعل، دون تواصل عابر لحدود هذه الكيانات، مع ما يقوله ذلك عن حقائق سعاده لجهة استبداد الجغرافيا وتراكمات التاريخ والنسيج الحضاري الذي ينشئانه في حياة الشعوب، وهي حقائق غير قابلة للإلغاء والتصرف. وفي المقابل تظهر قضيتا المواجهة مع المشروع الصهيوني القابض على فلسطين كضرورة حياة لكلّ من هذه الكيانات ولها مجتمعة، والمواجهة مع مشروع الإرهاب كذراع داعمة واحتياطية للمشروع الصهيوني بالوكالة، لكن وبالأصالة كإزميل تفتيت وتفكيك لوحدة النسيج الاجتماعي العابر للطوائف والأعراق في هذه الكيانات منفردة ومجتمعة، وبمثل ما تبدو العقيدة القومية زاهية بما تقدّمه الوقائع من تأكيدات على دقة استشرافاتها وصحة نبوءات مؤسّس النهضة وزعيم الحزب، يبدو القياس بميزان شهادة سعاده وصوابية رهانه على الحزب الذي أسّسه وعمّده بشهادته، بمقدار الحضور في ميادين هذه التحديات.
– تُرمى في صحن النقاش القومي أفكار كثيرة للنقاش حول وضع حزبهم، ويتخذ بعضها من عناوين ما يشوّش التأمّل ويصيبه بالدوار، ويحرف البوصلة عن المعايير المنهجية التي بدون حضورها يصير الجدل بيزنطياً حول جنس الملائكة، لا نهاية له ولا جدوى من خوضه، وأول البدء في الكلام هو أنّ العقائد ليست ديانات والأحزاب ليست أصناماً، العقيدة أداة فكرية وأخلاقية منهجية لفهم الحقائق ورسم خرائط تغييرها لخير الأمة وحفظ كرامتها وخير ناسها وكرامتهم، والأحزاب هي أدوات تنظيم وتجميع واستنهاض لطاقات الأمة الفردية وصوغها في مجموع يحوّلها إلى طاقة فعل في خدمة هذه الرؤى وتطبيق تلك الخرائط. وعبر التاريخ توزّعت أصحاب العقائد ثلاثة مناهج، تطرفان وخيار صائب، تطرف أول يعلي شأن الأداء العملي والنضالي خصوصاً حيث يكون الصراع عنفياً ولا مكان للفوز بجولاته دون الدم والشهادة، على كلّ ما هو فكري وسياسي وأخلاقي، وتعبوي وشعبي، فيقع في الإرهاب والنخبوية والهامشية رغم دوي الوقائع التي ينشئها وتبقى بعيدة عن حركة الأمة كمجموع، وعموماً يحدث هذا عندما تكون الأحزاب الحاملة للعقائد في طور النمو ومراحل المراهقة الفكرية والبحث عن الذات ويتقدّم صفوفها شجعان يفتقرون للعمق الثقافي العقائدي والقدرة التنظيمية الشعبية وطول النفس والصبر، ويعرّضها لمخاطر أن تمسك بها أجهزة المخابرات وتحوّلها دون أن تنتبه إلى مجرد استطالة تنفيذية لمشاريعها. وقد عرف القوميون نماذج من هذه التجارب وتمكّنوا من تخطيها وإعادة حزبهم إلى مسار التوأمة التي ربطه بها سعاده مع حركة النهضة في الأمة، وتطرف مقابل يُعلي ما هو فكري وثقافي ويسخّف النضالي ويكاد يحوّل الحزب إلى جمعية تبشيرية، بلا فعالية خصوصاً في مواجهات كالتي تعرفها بلادنا وحيث الدم هو الحاكم لمصير الصراعات. ويحدث هذا عندما يتقدّم الصفوف مترفون من قادة الصالونات، المثقفون، لكن الذين تعوزهم الشجاعة على التموضع حيث الخطر، والذين تفادوا في شبابهم إتقان فنون النضال وترفعوا عنها بدواعٍ عديدة، مقسمين البنية التنظيمة بين قيادة تنظّر وتفكّر وقاعدة تناضل من حيث يدرون أو لا يدرون.
– تحيا الأحزاب التي تخوض الصراعات المصيرية لأمتها، بعقيدة كعقيدة سعاده، بمقدار ما يتقدّم صفوفها مَن يتقنون إجراء الفحص المستدام، للتوازن بين حجم حضور حزبهم في ميادين الصراع، وتعبيره عن القيمة المضافة لوجوده في النسيج الاجتماعي لشعبه وأمته، فيمنح الصراع تلك القمية المضافة لحضوره، ويترجم الدم سياسة وأفكاراً ومواقف ومعانيَ، ويضيف إلى بريق التضحيات والاستشهاد شهادة الحزب التي يريد الإدلاء بها في تعريف هوية الصراع، ووجهة النصر. وذلك الفحص المستدام لهذا التوازن يعني التحقق من أنّ الحزب يحيا بمقدار ما يؤدّي مهمّته في قلب الصراع الحيوي الذي يحدّد مصير الأمة، وبمقدار ما يكون هذا الأداء إعلاناً عن هوية وإعلاء لشأنها، في تحديد طبيعة الصراع، وهذا ما نجح في فعله القوميون رغم تواضع الإمكانات، ورغم الضجيج الكثير على حواشي مسيرة حزبهم وفي قلب مؤسساته أحياناً، حوّل أشياء أخرى، لم تنجح بحرف انتباههم ومسارهم، عن البوصلة التي رسمها دم سعاده يوم استشهاده، الحزب الذي أسّس هو حزب فدائيين، كان هو أولهم، وليس جمعية حبل بلا دنس، وهو حزب عقيدة وفكر وهوية وقيمة مضافة يمنحها لقضيته بدماء شهدائه، وليس خزان دماء ومخزن سلاح فقال القوميون في مواجهة الغزوة الصهيونية للبنان، إنّ المقاومة هي الخيار الوطني والقومي في الردّ على الاحتلال والعدوان، وهي خيار عابر للمناطق والطوائف، وهي جزء من منظومة حماية للأمن القومي بوجه المشروع الصهيوني والقيمة المضافة في هذه المنظومة، وما كان لغيرهم أن يقول ذلك بمثل ما قالته مساهماتهم بالدم النقي الصارخ، لما يمثلون بالكمّ والكيف، ثم أعادوا القول في الحرب التي أطلقها المشروع الأميركي الصهيوني لإسقاط قلعة المقاومة التي تمثلها سورية ورئيسها وجيشها، بأنّ الحرب ليست بين معارضة ونظام، كما التبس الأمر على بعضهم في بدايات الحرب، ولا هي لعبة حجز مقاعد في مشهد سياسي سوري وإقليمي جديد، بل هي حرب وجود تستهدف النسيج الاجتماعي الجامع لكلّ من كيانات الأمة ولها مجتمعة، وأنّ القيمة المضافة التي يمنحها حضور القوميين في هذه الحرب كتعبير عن هذا النسيج الموحّد والجامع لا يملك سواهم أن يمنحها، فكانوا حيث يجب أن يكونوا.
– نجح القوميون خلال العقود الثلاثة الماضية في تثبيت هذا التوازن الواجب بين حضور الدم والعقيدة، بمثل ما أراده سعاده في يوم استشهاده، بعد مسار متعرّج في البحث عن الذات منذ غياب مؤسّس النهضة، عصفت بهم خلاله رياح محاولات الاحتواء والتوظيف، ومخاطر التحوّل إلى حزب من أحزاب العنف المنعزل عن حركة الأمة، أو إلى منتدى للقوّالين يثري صالونات الترف السياسي وينأى عن ساحات القتال. وفي قلب هذه التجاذبات صنع القوميون بوصلة استقلال قرارهم، الذي صاغ خياراتهم بعلاقة عميقة مع سورية تتجذّر في الوجدان الجمعي لهم وفي الوجدان الجمعي المقابل للدولة السورية، تنصف وقائعها اليوم الحزب من كلّ اتهام بكونه مجرد امتداد لمؤسسات الدولة السورية وأجهزتها، فما مرّ على حال الحزب في سورية وحياد مؤسسات الدولة تجاهه يحسم النقاش حول كون العلاقة بسورية علاقة تخندق في خيارات واحدة تتغيّر فيها الأسماء والعناوين، لكنها هي ما يحسم من هو الحزب السوري القومي الاجتماعي في عيون السوريين، بالإجابة عن سؤال، مَن هو الوعاء التنظيمي الذي كان حاضراً لتعبئة الطاقات وحشدها في ميادين القتال تحت راية الزوبعة، وامتلك ثقة القوميين وتلبيتهم حتى منحوه دماءهم، ولم تكن وليست اليوم منظومة علاقات بأفراد ومؤسسات وأجهزة، والإنصاف هنا يطال بالتاريخ والقضايا، مرحلة سابقة تجاذب الحزب فيها خياران في التحالفات بين قيادته نحو محور إقليمي لا يصبّ في دمشق، وبين محور تقع دمشق في قلب خارطته، كما يطال الإنصاف رموزاً وقادة حملوا وتحمّلوا أعباء الاتهامات والتساؤلات حول ماهية وصدقية علاقة خيارهم مع سورية بنقاء العقيدة وسموّ الحزب.
– في قلب هذه الحروب الطاحنة خلال عقود ثلاثة، قدّم القوميون لزعيمهم فهماً راقياً وعملياً وشهادة صادقة ووجدانية، لمعنى شهادته، كما تلقّوها منه قبل سبعة وستين عاماً، واليوم وهم يتأمّلون معنى الشهادة يقيمون الحساب لكل ما يدور من نقاش في حزبهم وحوله، بهذه العين، عين سعاده لحظة تلقي الرصاصات التي مزقت جسده، وهو يقول «أنا أموت أما حزبي فباق»، وقد بقي الحزب حياً بقوة هذه المعادلة التي صاغها سعاده في كيفية قياس حياته وسلامة نبضه، بقوة الحضور الجامع بين الدم والهوية التي يمنحها والحقيقة التي يرسمها، وهكذا لم يتحوّل حزبهم إلى جماعة عنف معزولة ولا إلى نادٍ سياسي مُترَفٍ، ولم يصبح جزءاً من أرشيف أو ديكورات الأحزاب الهرمة التي ولدت في زمن ولادته، ويكفي أن تتحدّث أعمار شهدائه عن حيوية دم الشباب المتدفق في عروقه. ولهذا عرف القوميون أنّ مكانتهم في الصراع بما تجسّد من قيم مضافة تطبع بهويتها هذا الصراع وتمنحه ما كرّمتهم به عقيدتهم، ترتبط عضوياً وبنيوياً بالنظر لشؤونهم الحزبية بعين حماية وتفعيل هذا الدور وهذه المكانة، واضعين أمانة تقدير هذه الحسابات بين أيدي مؤسساتهم، وعيونهم مفتوحة على مواءمتها بين معايير وشروط وأنظمة الإدارة الحزبية ومقتضيات الصراع، بعيداً عن جدل الترف وحسابات الأنا، فلا وقت لديهم للانصراف إلى مجادلة كلّ ما يبعدهم عن احتلال المكانة التي تليق بهم وبأمّتهم وبزعيمهم ومؤسّس حزبهم ونهضتهم وشهادته في يومها المشهود. فالقوميون حاضرون بنباهة وسلاسة لمنح أصواتهم في مؤتمراتهم ومؤسساتهم إلى حيث يقول لهم التاريخ والحاضر أن يكونوا، حيث يجب أن يكون حزبهم، بقوة الدم تحيا العقيدة وبقوة العقيدة تتحضّر الدماء سخية لتشهد، وأمام شهادتها يصير الكلام صف حروف بلا نقاط، ويصير كلّ ما يدور من نقاش علامة صحة وعافية على حيوية وحياة المؤسّسة الحزبية التي لا تتقدّم بقرارات تتخذ بالإجماع، بل بقرارات تولد من رحم سجالات تتقابل فيها الخيارات حتى الثمالة، ضدان لما استجمعا حسُنا… فالضدّ يُظهر حسنه الضدّ.