البطل ميلاد عيسى من ملاعب الكرة في المريجة إلى حلبات المصارعة
ابراهيم وزنة
أسماء كثيرة لمعت في ميادين الرياضة اللبنانية، أبطال نجحوا في حفر أسمائهم وإنجازاتهم في ذاكرة عشّاق الملاعب والرياضات على اختلافها، حملوا راية الوطن بروح المسؤوليّة فتألقوا، منهم من رحل عن هذه الدنيا ومنهم من يعيش حاليّاً متحسّراً من وطأة الإهمال الرسمي واللامبالاة من قِبل المعنيّين، ولكي لا تطويهم رحى النسيان وتُسقطهم الأيام من الذاكرة، ارتأيت «فلفشة» صفحات العزّ والتألق … لمن يستحق، علّ هذه الإضاءة تشكّل وساماً على أولئك المجتهدين …. والبداية مع بطل لبنان في المصارعة ميلاد عيسى.
التقيت به عن طريق الصدفة أمام باحة الكنيسة في المريجة، فعرّفني الصديق عصام عمار إليه قائلاً: «ميلاد عيسى … صاحب الإنجازات الكبيرة في المصارعة على مستوى لبنان … وللأسف حتى أبناء المريجة لا يعرفون ذلك»، وبناء على التعريف المستفزّ، ارتأيت «فلفشة» أوراق وذكريات ذلك الرجل الذي غزا الشيب رأسه وحفرت السنون خطوطها في جبينه، لكن عزيمته بقيت على حالها، فهو النشيط المخلص لعمله والمحاور اللبق وصاحب الابتسامة الدائمة، وربّما لصفاته تلك، استبقاه المجلس البلدي في المريجة كناظر للأشغال في المريجة والليلكي وتحويطة الغدير، على الرغم من تجاوزه الـ76 من عمره. ضربت موعداً معه في الكنيسة، وتمنّيت عليه إحضار بعض الصور والوثائق بغية إبراز إنجازاته، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما حضرت إلى صالون الكنيسة لأرى عشرات الصور وصفحات الجرائد وكميّة محترمة من الكؤوس والميداليّات، كان قد أحضرها من بيته في الحدت قبل الموعد المحدّد بساعة، ليرصفها بترتيب فائق ولسان حاله يخاطبني عند المصافحة «آن الأوان ليعرف أبناء بلدتي تاريخي الرياضي» … فمن هو هذا البطل الذي يجب أن يتعرّف إليه الجميع؟
من كرة القدم إلى المصارعة!
في العام 1940 أبصر ميلاد عيسى النور في المريجة ـ حي الليلكي، ليكون الابن السابع لقزحيا عيسى أبو الياس ، البنّاء الذي شيّد كنيسة المدورة عند محلّة الأوزاعي. وبين ربيعات الصبير و»العواد» وشط الأوزاعي كان يمضي أوقاته مع رفاق الزمن الحلو، وعلى ملعب المريجة استهلّ مسيرته الرياضيّة في لعبة كرة القدم متأثّراً بشقيقه الياس وبلاعبي برج البراجنة، ونظراً للأنانيّة الزائدة التي كانت تميّز لاعبي الكرة في تلك الأيام، ارتأى ميلاد التوجّه ناحية إحدى الألعاب الفردية ليشقّ طريقه وحيداً في دروبها، فاختار المصارعة بناءً على توجيه كبار بلدته الذين كانوا يواكبونه بإعجاب خلال جولات «المباطحة» التي كان يخوضها على شاطئ الأوزاعي مع نظرائه وأبناء جيله.
من الشباب إلى الوطني
في العام 1957 انتسب ميلاد إلى نادي الشباب في محلّة الصيفي، حيث مقرّ حزب الكتائب المركزي بتسهيل من ابن عمه فيليب، وهنا يتذكّر: «درّبني في بادئ الأمر بطرس غانم ثمّ أدمون الزعني، وبسرعة تطوّر أدائي في المصارعتين الحرّة والرومانية، وعند اندلاع ثورة الـ1958 أقفل النادي أبوابه، ما اضطرني إلى العودة إلى المنازلات الاستعراضية على شاطئ البحر، وبناء على تمنيّات بعض الأصدقاء توجّهت إلى النادي الوطني في فرن الشباك حيث انتسبت إليه وتدرّبت مع عبدو ومتري عبود، كما لقيت التشجيع والتوجيه من رئيسه ميشال ناكوزي، إلى أن شاركت في أوّل بطولة رسميّة في العام 1961، فأحرزت المركز الأول لبطولة الدرجة الثانية وزن خفيف ، وبعدما فزت في المباراة الحاسمة على محمد المير ـ في نفس السنة ـ شاركت في بطولة الدرجة الأولى ووصلت إلى المباراة النهائيّة، لكن حصل ما لم يكن بالحسبان».
سألته، ماذا حصل … هل تآمروا عليك؟ فأجابني مسترجعاً شريط الذكريات: «طلبوا منّي أن أخسر أمام المصارع متري خوري الذي يكبرني بعشر سنوات، بحجة أنّ أمامي المتّسع من الوقت لأحرز البطولات، لكن خوري على وشك الاعتزال من دون إحرازه لأيّ لقب، حينها رفضت الطلب من أساسه فتغيّبت عن اللقاء الحاسم حيث ذهبت إلى البحر أشكو همّي للموج، فيما تمّ تتويج خوري بطلاً للمسابقة».
أسماء وإنجازات وذكريات
كثيرة هي الأسماء اللامعة في تاريخ المصارعة اللبنانية التي تمرّن ميلاد معها ولاعبها في البطولات الرسمية، وهنا يستذكر متحسّراً على تبدّل أحوال الناس وأجواء البلاد: «تمرّنت مع إيلي نعسان، وميشال ناكوزي، وأحمد نحلة، ويعقوب رومانوس، ومحمد زعيتر وسعيد مارديني، ورستم المقداد وحسن بشارة على الرغم من اختلاف الوزن مع كثير منهم، لأنّنا كنّا نجتهد إلى تطوير أدائنا ومساعدة بعضنا البعض»، ليضيف: «وفي النادي الوطني في فرن الشباك، تمرّنت مع سامي مقصود الممثّل الراحل ، وجان كيروز، وبطرس سعد، وجورج بطرس، وميشال قزي، وميشال شعيا، وجان ناكوزي ومتري عبود». وفي غمرة التحسّر على الأيام الخوالي، أخبرني ميلاد حادثة لم تزل عالقة في باله، قائلاً: «خلال إحدى نزالاتي الفاصلة على حلبة المدينة الرياضيّة، وبينما كنت أنازل مصارع نادي أسامة حسين عواركي، لاحظت أنّ أحد الجالسين في الأماكن المخصّصة لجمهور نادي أسامة يشجّعني بكل جوارحه، وبعد فوزي في اللقاء توجّهت نحوه لأشكره، فإذا هو ابن بلدتي سبع سليم، الذي بادرني «ابن ضيعتي أولى بتشجيعي»، وفي حادثة مماثلة خلال البطولة العربيّة في مصر نيسان 1967 ، لمحت من بين الجمهور المواكب أنّ أحدهم يشجّعني «عا صوت عالي»، ولمّا انتهى اللقاء بفوزي، تقدّم ابن برج البراجنة فضل رحال نحوي مع بعض أصحابه من المصريين وقال لهم: «هذا ابن ضيعتي».
مشاركات خارجية
أجمل الذكريات التي يتذكّرها ميلاد عيسى بتفاصيلها وكأنّها جرت بالأمس، هي سفرته في العام 1966 مع المنتخب الوطني ضمن بعثة تضمّ ثمانية أبطال إلى معسكر في فرنسا، ويومها، وعلى لسان ميلاد: «فزت في باريس بفارق نقطة على المصارع الفرنسي الدولي غي مارشان، وكنت قد فزت عليه بنفس النتيجة أيضاً عندما التقيته في بيروت سابقاً»، ويعزّ عليه عدم اختياره ضمن البعثة التي سافرت إلى بولونيا للمشاركة في بطولة العالم، وعن إبعاده من البعثة يومها، فقال: «الحسابات المعتمدة من قبل الاتحاد في أيّامنا كانت تراعي التمثيل الطائفي، وبناءً على تلك المسألة وجدت نفسي مُبعَداً من المشاركة على الرغم من تصدّري لأبطال وزني الخفيف ، يومها وخلال التصفية المعتمدة قبل اختيار أبطال الأوزان المشاركة، ولما كان المصارع إبراهيم عواركي مصاباً، اعتقدت بأنّني قد ضمنت سفري ضمن البعثة، وخلال اللقاء الذي جمع محمد مسلماني وميشال ناكوزي جاءني يعقوب رومانوس ونصحني بأن أتوقّف عن تشجيع ناكوزي، وبعد تعادلهما في النزال الأول نجح ناكوزي بتحقيق الفوز، وبناءً عليه تمّ اختياره مع يعقوب رومانوس للسفر وتمّ شطب اسمي من البعثة بحجّة مراعاة التمثيل الطائفي 3 من المسلمين و2 من المسيحيين ، وهذا التجنّي هو اختراع بعض ضعاف العقول الممسكين بدفة الكثير من الألعاب الفرديّة، وللأسف ـ كما أخبروني مؤخّراً ـ لم يزل مستمراً لغاية اليوم، وبناءً عليه لم تستقم مسيرتنا الرياضيّة». وفي نظرة واقعية على المصارعة اللبنانية وخفوت بريقها، قال ميلاد عيسى: «لقد تراجعت الرياضة اللبنانيّة بشكل كبير على صعيد جميع الألعاب الفرديّة والجماعيّة، كان لبنان ينافس بقوة ويتقدّم على معظم الدول العربية باستثناء مصر في المصارعة ورفع الأثقال، وحتى في كرة القدم. أمّا اليوم، فصرنا في آخر الترتيب»، وعن رأيه في حفلات المصارعة التي كان ينظّمها الشقيقان جان وأندريه سعادة على حلبة المدينة الرياضيّة، قال: «تمثيل بتمثيل بين بعض المحترفين بهدف كسب المال مع تقديم عروض مثيرة».
… ولكرة القدم حكاية خاصة
بعد اعتزاله حلبات المصارعة في العام 1970 وهو في الثلاثين من عمره، عاد ميلاد إلى سيرته الأولى حيث انضمّ رسمياً إلى صفوف فريق التضامن المريجة لكرة القدم، فلعب في مركزين جناح أيمن وقلب دفاع بتوجيه من المدرّب عصام عمّار، ومع اندلاع الحرب الأهليّة العبثيّة في العام 1975، وتفاقم الأوضاع الأمنيّة اضطر إلى ترك الملاعب ومنطقته، حيث انتقل ليسكن في الحدث، قريباً من المريجة التي يسري عشقها في دمه.
ميلاد عيسى اسم كبير في العطاء والإخلاص، إنجازاتك تحكي عنك، وشهادات عارفيك هي الوسام الأكبر الذي تستحقّ أن تضعه على صدرك.