العجز الرأسمالي والأزمة النخبوية العربية…
د. رائد المصري
يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية فقدت السيطرة في النظام الرأسمالي، بعد غرقها في مديونية كبيرة فتعرّضت شركاتها الاحتكارية لضغوط كبيرة من إفلاسات وتقليص للعمالة وغيرها من الأنشطة، والذي حدا بالحكومة إلى انتهاج سياسة القرصنة المالية عبر البنوك وقانون «فاتكا» بحيث تستحصل على عائدات بمئات ملايين من الدولارات كضريبة أو خوّة تدفعها بنوك العالم لعدم تقيّدها بالسياسات المالية التي رسمتها لهم القوة المالية الأميركية.
بعد غرق هذه القوة الأميركية في الحروب المنهكة باتت الفوضى العالمية تربك سياساتها، حيث تعيش هاجس التنافس مع غيرها من الرأسماليات الصاعدة الأخرى كالصين وروسيا، وأيضاً أزمات أوروبا المالية والاقتصادية والإفلاسات وآخرها كان الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، كذلك سياسات انفلات دول أميركا اللاتينية والأزمات الاجتماعية والتي يمكن لها أن تنفجر في غير بلد من البلدان الرأسمالية نتيجة الميل نحو السياسات التقشّفية الشديدة.
هنا إذن لم تعد المسألة مسألة أزمة، بل أصبحت القضية قضية وضع عام يتّسم بعدم الاستقرار في النمط الرأسمالي ككلّ لكونه نمطا انتقاليا، لأنه يشهد انهيار رأسماليات وصعود أخرى غيرها. وهو الوضع الذي جعل القبضة الرأسمالية ضعيفة في الأطراف، وتجسّد ذلك في عجز هذه المنظومات عن حلّ المشكلات التي تنتج عن الانفجارات الاجتماعية والسياسية والعسكرية التي بدأت وما زالت تتفاعل وتتطوّر بما بات يهدّد الأمن والسلم الدوليين.
في مجمل القول وعلى المقلب العربي الذي يعيش عالمه في فراغ فكري لم تستطع نخبه تقديم أيّ جديد على مسرح النظام السياسي، فبعد الحرب الباردة وخلال أكثر من عقدين ونصف من الزمن كانت النّظم السياسية العربية الرسمية تعيد تموضعها في الحكم عبر إضعاف المعارضات وتهميشها أو سحقها أو بأحسن الأحوال تحويلها إلى شكل غير ذي فاعلية بقالب ديمقراطي، كي يستتبّ الأمر لهذه النظم وهو ما أعطاها القوة والديمومة والإستمرارية. لكن الأنكى والأكثر مرارة هو أنّ هذه النّخب الثقافية والسياسية المعارضة منها وغير المعارضة، كانت تتعالى على الطبقات الشعبية والجماهيرية الفقيرة بعد أن تحوّلت وتماشت مع الموجات الليبرالية ما جعلها غافلة عن قضايا الناس وبعيدة عنهم ممّا سبب افتراقاً بينهما، وكذلك كانت هذه الطبقات الشعبية غير متحمّسة ولم تنسَقْ إلى شعارات الديمقراطية كتداول السلطة والانتخابات والحريات وغيرها وبات كلّ طرف يعيش على تناقض مع الطرف الآخر.
وبديهي أنّ النّخب الثقافية والسياسية العربية عانت كذلك الاستبداد والتسلّط من النظم الحاكمة، وكانت تنظر إليها على أنها تقف عائقاً وحائلاً دون وصولها إلى مراكز صنع القرار واعتبار أنّ هذه السلطة الحاكمة هي المعيق لتطوّرها، وهو الأمر الذي جعل هذه النخب تركّز في المراحل الأولى من الأحداث العربية التي بدأت عام 2011 على التغيير في شكل السلطة من خلال شعارات كالاستبداد السياسي ومن خلال مفاهيم اقتصادية خاصة بها لا تمتّ للواقع المعيشي بصلة. وفي المقابل ولدى النظر من ناحية ثانية إلى دور الطبقات الشعبية الفقيرة على امتداد الجغرافيا العربية وهي التي لا تنشط في السياسة وهو الموقع الطبيعي لها لم يكن أمامها سوى تلقّي الصدمات في القمع والكبت والاحتجاج.
ومعلوم أنّ جوهر الصراع الحقيقي ليس مجرّد شعوب تقارع الاستبداد فهذا أمر مبسط، إذ لا بدّ من تفكيك منظومات هذا الاستبداد وآلياته وطرق عمله والتي تتشابه نظمه في البنية والجوهر وإن اختلفت أيديولوجية كلّ نظام عن الآخر، لكن تبقى البنية الحاكمة تمثل بما تمثّل من أوليغارشيات طبقية حاكمة مؤلفة من رجال أعمال وتجار ورأسماليين طفيليين جميعهم اغتنوا من بيروقراطية السلطة وكدّسوا وراكموا الثروات والرساميل من نهب القطاع العام، وعندما قرّروا استثمار هذه الأموال المنهوبة أطلقوا شعارات الإصلاح الاقتصادي والتحديث والتطوير وعملوا على الالتفاف أكثر من خلال بناء منظومات اقتصادية وهمية كالفنادق والعقارات وغيرها من تشويهات في بنى الاقتصاد غير المنتج.
هذا الشكل الطفيلي للاستثمار أتى منسجماً ومتوائماً مع منظومة الرأسمالية العالمية الطفيلية في تشكّلها وتطوّرها الأوّلي، أيّ صعود رأس المال المالي على حساب رأس المال الإنتاجي وتوظيفات هذا الرأسمال في القطاع المصرفي عبر المضاربات المالية والقرصنات البنكية.
إنه انفصال حقيقيّ حصل خاصة بين نخب اليسار وتحديداً الطبقات الشعبية، ما زاد في إخفاق دور هذه النخب، وحتى يكتمل المشهد لم يمتلك البعض من أصحاب الفكر الماركسي وعياً كافياً عن غيرهم وهم المؤمنون بالتحليل الطبقي الأولي وبأنّ الاقتصاد هو المحدّد الأساسي والأولي في تحليل هذا الصراع الطبقي، فانبهروا بمنجزات الليبرالية وقاموا بمدّها وتزخيمها بالعديد من النشطاء والفاعلين والكوادر كجمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني حتى وصلنا إلى المأساة…
مأساة الفكر والنظرية والتطوير لحكم سياسي لم ندركه بعد حتى اليوم…