«بنت القسطل» للشاعر سيمون عيلوطي… سياقات تروم التجريب
أحمد الشيخاوي
لاستقطاب الذائقة دونما الزيغ عن شعرية التجريب، لم يكن هنالك بدّ من الإقحام المقصود لمشاهد ذاتية منطلقة من الذاكرة، تروم إبراز المستويات الرمزية لجدلية المكان والاحتلال في خضمّ العالق بالحمولة النفسية من روائح طفولية تدين السجون وتسترجع الزمن الغابر لتنتج ثقافة مواكبة تتشرّب تقاطعات الأجناس التعبيرية، مندغمة في بعض الإطناب بغرض تدوير الخطاب المسؤول والمنفتح والراقي بشعرية تدويل القضية الفلسطينية، بالمعنى الحماسي الواعي حدّ نسج عوالم تستغرق جوارح التلقّي بطقوسها الفلكلورية المُمسرحة ليكتمل بذلك تفشّي النصّ باتجاه نهاية تقوم على أنقاض وثيرة، وتساوق مشوّق لقران فنّي/معرفي يفتح أسئلة وجودية ووطنية جمّة.
كذلك الحال عند الشاعر المبتكر سيمون عيلوطي في تعاطيه الطوباوي مع أحداث ومواقف عزل العقل البشري أو تسارع المحاولات لأجل كهذه غايات منحطّة تستهدف فلسفة الحقّ وتجفّف البذور الأولى لمصل فعّال ضدّ جزافية تعبئة الأجيال بكل ما من شأنه إتاحة الشحن الإيجابي، والحقن الواقية أو الدافعة للنعرة الاستعمارية حين تستحوذ لتنخر الهوية وتغتال الأوطان.
المشهد الأول:
تفتح الستارة عن مجموعة من أهالي قرية صفورية المهجرة، مكوّنة من عدد من عدد من الرجال والنساء. يقفون في موقع يطلّ على أحد المنازل التي ما زالت قائمة في موقع القرية. نراهم يتهامسون، تصل إلى أسماعنا بعض عبارات أحدهم: «مرور 50 سنة على النكبة، بستاهل منا إشيا كثيرة… فعاليات تكون عّ قدّ الحدث».
يقول آخر: «برأيي الشخصي، أهمّ فعاليّه راح تقوم، هي فعاليّة مسيرة العودة. اقتراحي إنّا نحييها في 15 أيار، يوم ذكرى النّكبة».
يقول غيره: صفورية في البال تْظلّ
أحلى من زهراتِ الفلّ
زيارتها واجب مفروض
يشارك فيها أهل الكلّ».
إحدى الحاضرات: «زيارتها فرض وواجب
على كلّ الحبايب
مشتاقة، قلبي دايب
حقْلتْها بالخير تْغِلّ».
ثم يردّد جميع الحضور:
«صفورية بساتين
مفروشِة خَضار
نبعات وحساسين
قسطل وأزهار
إحنا مْوَحّدين
تا نوخذ قرار
عَ ربوعها جايين
كل موسم ونطلّ».
عين المعنى ما سنستشفّه من جردٍ انتقائيّ واقتطاف خاطف نابض بسحر المفردة في الإحالة على أنوية المعاناة إذ تلامس المحطات المفصلية من تجربة عاكسة لتعدّد الذات الشاعرة في ارتباطاتها بالهمّ الوطني المعتّق بالحضور القوي لذاكرة المكان.
«عا دربي مش مستهدي
تزيد الأحزان
تروح السنة وتعدّي
تمرّ الأزمان
يا قلبي ناطر وعدي
عا جمر النار
حاجي تلوب وتتألّم
يا قلبي كنْ
أصبُر، دقاتك إرحَم
أحسن مَ تجِن
عايش كنّك بجهنّم
لا حَدّ يحِن
ولا قدّامك بَرْعَم
زِرّ الأزهار».
إنه صلب ما يطالعنا به أحدث إصدار رقمي عن منشورات «ألوان عربية» من السويد لشاعرنا المتمرّس ونحن بصدد اقتناص ما استطعنا إليه سبيلاً من مفاهيم مفخّخة بالحسّ الفلسطينيّ تجاه النضال المزمن والظاهر ولو بعد حين.
في حضرة «بنت القسطل» نكتفي باقتباس الشذرات التالية:
«ما نرحل لو شو بيصير
نبقى هون كبير زغير
ما نترك أرض الأجداد
لو زتّونا بقلب البير
مهما عملوا تهديدات
وقالوا شوفوا غير بلدات
أهاليها تركوا الساحات
خافوا من هول التدمير
في هاللعبة ما منفوت
ما يرهبنا حتى الموت
بالمقالع والنّبوت
منقاوِم لو شو بيصير».
«صفوريّة تظلّ
على مرّ الليالي
قمرها يهِلّ
يضوي العتم اللي قبالي
صفورية تحلّ
لولادي تظلّ تلالي
طول الأزمان
صفورية ما ننساكي
صورة بالقلب
مطبوعة وعاهواكي
نمشي عَ الدرب
من شوقي قلبي الباكي
نارو بتهبّ
صرنا أنا ويّاكي
رمز الأوطان.
بكرامة بدنا نعيش
في بلدنا
ما نرضى حاكِم هيك
يجلدنا
ما قِدِر ظالم
مهما ملَك قوّة
يخلّينا ننسى
بلادنا الحلوة.
كُرباج حبسو
ما بيِرهبنا
ما نسينا بيدرنا
ولا الطاحون
معاصر زيتنا
والبيت الحنون
ما نسينا جرّتنا».
ديدن شاعرنا استلهاماً من مجمل منجزه، يشاكس الراهن تحت مظلات إنسانية تساير الطرح الآنف الفذلكة وإن بنسب متفاوتة ترهن الفعل الإبداعي بخشبة عارية تماماً لشخصنة ما يجود به حقل المزج الدلالي ما بين لسان الضادّ والدارج، التزاماً بكثافة كلامية تتحاشى التكلّف كما الإسراف في بلورة مشاهد ثرية ومختزلة في بديهية المعطى المنتصر للإنسان والقضية أولاً وأخيراً.
إنها توليفة متناغمة الأضداد تحتفي بصفورية كموطن أبديّ للحقيقة وللحياة بشتّى معاني تجاربها الموغلة مع جذور تاريخ النكبة في بصيرة دامية ووعي إنسانيّ متّقد وعصيّ على الاضمحلال.
كاتب مغربي