ماذا يعني العزم التركي على التطبيع مع سورية؟
ناصر قنديل
– لم يعُد ممكناً للراغبين بإقناع أنفسهم بأن لا تغيير في الموقف التركي بل مجرد تغيير في اللهجة أن يؤلفوا الروايات البوليسية لتقديم تفسيرات تلفيقية لتفسير المواقف المتتابعة للقيادة التركية الجديدة التي يمثلها الرئيس الجديد للحزب الحاكم والحكومة علي يلدريم، من التطبيع مع روسيا الذي لا يوازيه ولا يُلغي مفاعيله في القراءة السياسية تزامنه مع التطبيع مع «إسرائيل»، فالعلاقة التركية «الإسرائيلية» التي تمّت تسويتها هي جمع بين تظهير علني لعلاقة تموضعت على ضفة واحدة طوال الحرب على سورية عنوانها السعي لإسقاط الرئيس السوري واستنزاف جيشه وتوزّع أعباء الدعم وتنسيق أشكال المؤازرة للجماعات المسلحة، وخصوصاً تنظيم «القاعدة» بجناحه الرسمي جبهة النصرة الذي حظي بدعم علني من أنقرة وتل أبيب، وتنسيق تحت الطاولة مع تنظيم داعش الذي تحدّثت التقارير الغربية مراراً عن تقاسم تركيا و«إسرائيل» لتجارة النفط المنهوب مع التنظيم. ومعلوم أنه إذا تحدثنا عن تطابق مواقف وتكامل أدوار بين تل أبيب وأنقرة في المسألة السورية، فنحن نتحدث عن التلاقي حول أبرز وأهمّ مسألة تعني الحكومتين، وشكلت ولا تزال محوراً لقضية وجود وأمن قومي، تصغر أمامها الخلافات. ومن جهة مقابلة جاء التطبيع التركي «الإسرائيلي» مشفوعاً بتبادل الخدمات بين حكومتي أنقرة وتل أبيب في مسألتين حيويتين تشيران إلى تسليمهما بخسارة الحرب في سورية، والتأقلم الذي تتجهان إليه مع رسم سقوف جديدة لسياساتهما الإقليمية، حيث ترتسم في أنقرة قضية إحباط أيّ صيغة تكرّس الخصوصية الكردية على الحدود مع سورية كأولوية بديلة لإسقاط الرئيس السوري والرهان على دور «إسرائيلي» في تخديم هذه الأولوية التركية، وفي المقابل ترتسم في تل أبيب مساعٍ نحو مبادرات أمنية وسياسية نحو الفلسطينيين، وخصوصاً التهدئة في غزة، والرهان على دور تركي في تخديم هذه الأولوية الإسرائيلية، بما لـ»إسرائيل» من علاقات بالأكراد وما لتركيا من علاقات مع حركة حماس وقيادة غزة.
– خلافاً للتطبيع التركي الإسرائيلي كانتقال من مرحلة في التحالف إلى مرحلة جديدة في التحالف، يأتي التطبيع المتسارع بين تركيا وروسيا، على خلفية إنهاء تصادم عمره سنوات الحرب على سورية، وخلاف فقطيعة بقوة هذا التصادم المتصاعد منذ بدء الحرب على سورية، وكما تقول وقائع هذا السير نحو التطبيع إنه يتمّ بقوة اندفاع تركي لموقع جديد من هذه الحرب. هو ما وصفه وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، برسم أولوية وحدة سورية كعنوان للسياسة التركية بديلاً لأولويات سابقة، والقصد طبعاً أولوية إسقاط الرئيس السوري. وأنّ هذه الأولوية تستدعي تنسيقاً تركياً روسياً إيرانياً وصولاً إلى حلف ثلاثي يصون وحدة سورية، والإشارة الواضحة هنا إلى نقطة التلاقي مع «إسرائيل» في البحث عن أولويات ما يسمّى بالأمن القومي، بدلاً من سقوف وطموحات «إسرائيل» الكبرى والعظمى، أو العثمانية الجديدة، اللتين تسبّبتا بتصادم ظرفي بين انقرة وتل أبيب، على حدود الأوهام الإمبراطورية. وبقوة هذا الترسيم الجديد لأولويات أنقرة تمّ الانعطاف نحو موسكو طلباً لقبول الاعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية، وسعياً لتطبيع يعيد العلاقات والمصالح الاقتصادية. وهذا ما تدرك أنقرة ويدرك كلّ متابع أنه استحالة بوجود جيشي البلدين في خندقين متقابلين في الحرب السورية، وأنّ أولوياته تبدأ بتبريد الجبهات بين الجيشين وصولاً إلى التموضع في خندق واحد، خصوصاً مع ما يجري في الميدان من سقوط لكلّ المراهنات التركية على جبهة النصرة وآخرها النتائج المخيّبة لعاصفة الشمال، وبدء تقدّم الجيش السوري وحلفائه نحو أحياء حلب التي يسيطر عليها المسلحون.
– بالتساوق مع التطبيع المحكوم بالتغيير والتموضع الجديد اللذين تفرضهما العلاقة المتجدّدة مع روسيا، يصير منطقياً أن تسعى أنقرة لتطبيع حرمت منه مع كلّ مَن خاصمتهم بسبب موقفها وموقعها السابقين من الحرب على سورية. فما معنى أن تغيّر سياستها وتتجه نحو موسكو وتبقى على خصومة وسوء تفاهم مع طهران، أو تأزّم مع بغداد، أو عداء مع دمشق، وليس الحديث عن القاهرة هنا عبثياً. فالمسألة هي الانتقال من منهج إلى منهج في رسم السياسة الخارجية، فالذي سقط في أنقرة ليس سياسة العداء لموسكو، فهو لم يكن موجوداً إلا بقدر ما فرضته منهجية الأوهام العثمانية، التي أنتجت الطموحات السورية المرتفعة السقوف لأنقرة، والعودة إلى موسكو كما التطبيع مع «إسرائيل» محكومان بسقوط هذه الأوهام والمنهجية التي فرضت سياسة خارجية عنوانها السعي لفرض «الأخونة» في المنطقة. ومن قلب هذه المنهجية اندلعت المواجهة مع القاهرة، بسبب وضع العلاقات المصرية التركية في ميزان العلاقات بين الحكم المصري والإخوان المسلمين.
– أن يدرج على جدول أعمال أنقرة الاتجاه لتطوير العلاقات مع إيران وإزالة سوء التفاهم معها، بسبب تداعيات السياسات المتصادمة حول سورية، وأن تتجه أنقرة لتموضع مختلف نحو مصر والعراق، صار بديهياً. بقي السؤال حول العلاقة بالدولة السورية برئيسها وحكومتها، فهل تجرؤ أنقرة على الخطوة الصعبة بالاتجاه نحو تطبيع بمعزل عن مسار الحلّ السياسي الذي ترعاه موسكو وواشنطن وتسعى أنقرة للعب دور فيه بديلاً عن دورها في الحرب. وقد أبلغت المعارضة في خطاب علني للرئيس التركي يقول فيه، إنّ أقصى ما بات بإمكانه أن يعدهم به هو الجنسية التركية، أم تنتظر تركيا وحكومتها تبلور مسار هذا الحلّ على الطريقة الأميركية، وتربط به التطبيع مع دمشق؟
– ما يقوله رئيس الحكومة التركية أنّ ما يجعلنا نختلف مع سورية والعراق ومصر قد يكون مهماً، لكن ما يدفعنا للبحث عن تطبيع العلاقات والتفاهم والتعاون أهمّ بكثير. وهو هنا يضع دمشق بالتلازم مع القاهرة وبغداد، في التقدّم خطوة نحو تحرير التطبيع من شرط الحلّ السياسي، ويشير للخلافات لكي يؤكد الحاجة للتفاهمات، ويربط الحاجة للتفاهمات بمقتضيات الحرب على الإرهاب كمصدر خطر مشترك ما عاد ممكناً تجاهل الحاجة لتعاون إقليمي واسع في مواجهته. وفي هذه الحالة يصير الشعار كافياً لفهم أنّ التطبيع مع دمشق يتحرّر تدريجاً من ربطه بالأزمة السورية والعلاقة بين الدولة والمعارضة التي تتبنّاها أنقرة، بل يشير إلى رغبة تركية بتفعيل الدور في صناعة الحلّ السياسي في سورية وإبداء الرغبة بالدخول على خط الوساطات المشروط بالتطبيع مع الدولة السورية ورئيسها حكماً، فالحساب التركي يتمّ وفقاً للطريقة التالية، بدلاً من أن نقيم الحساب للتبرير والشرح والتفسير، فلنضع جانباً ما سيُقال ولنتصرف بمنطق المصلحة، فهكذا تشتغل الدول، وبمنطق المصلحة، ما دمنا سنتغيّر ونغيّر سياساتنا، ونتجه نحو موسكو بقوة هذا التغيير فنتمّم الدائرة ونذهب نحو الجميع. وما دمنا قد قرّرنا التوجه للخروج من الحرب بسبب الفشل والخيبة، فلماذا ننتظر أن ينجز غيرنا التسوية، والتعاون مع الدولة السورية يمنحنا فرصاً أفضل للمستقبل، والحؤول دون قيام خصوصية كردية على الحدود سبب كافٍ للداخل التركي لفهم هذا التحوّل من المواجهة مع الرئيس السوري إلى التعاون معه. أما المعارضة التي ترغب بالتسوية فجوابنا لها أننا نضمن لها مقعداً أفضل في قطار التسوية، وتلك التي لا تريد فقد أعلن الرئيس التركي أننا نضمن لها الجنسية التركية.