«بعض الحبّ يكفي»… ليكون وطناً أبديّاً لعاصمة الروح!

النمسا طلال مرتضى

لم تكن لتستكين. بيد أنها تحفظ عن ظهر سرّ حجم خساراتها. تُخالبها فوضى الحواس، يدهم روحها نزوح تعدّى الطفرة، ونزوع لا تهمد أصابع حريقه من حدس القبض على كمشة ريح أو عصف لتشعل به حبر القول. إنها الغواية العبثية حين ترمي وعلى دفعة واحدة، كل مفاتيح بيوت شِعرها بِيَدِ عابر حبرٍ ماجن، يعرف عن سابق قبلة كيف يسلبها ارتعاشة القفلة، بعد أن أرضعها لُبان القصيدة: عابثٌ أنت حبيبي

وأنا طفلتك المشاغبة

هلّا تعلّمني امتشاق الريح

ومراقصة الليل

هلّا تعلّمني لغتك

هل ترسم على جسدي دوائر وفوضى

وتسحق ممانعتي

ترمي الرفض في عتمة لا تبصر نهايتها

هل تمنحني سطور القصيدة

لأنني أضعت الحروف

عند حدود لعابك!

الشاعرة عبير حمدان في منجزها الجديد «بعض الحبّ يكفي» ـ الصادر في بيروت بالتعاون مع «جمعية حواس» الثقافية، تتفلت من قيود القول لترمح نحو تشكيل صوت خاص ـ صوتها ـ بعيداً عن توسّل منتج الغير، والوقوع في شرك التكرار واللحن، بفعالية تأليفية دافقة بالعفوية إلى حدّ الإفراط، لا تخلو من تمرّد لافت يربك متلقيها في لجة السؤال ـ ماذا تريد؟ ـ القصدي:

لا ترحل قبل أن أنهي القصيدة

فأجمل القصائد تلك التي يكتبها جسدان

أجمل القصائد تلك التي تنبعث من رحم الانتظار

أجمل القصائد تلك التي تعاقر الجنون

لا ترحل قبل أن أرتدي ثوب أنوثتي

فأجمل أنثى تلك التي ترتدي أنفاس حبيبها!

في شعر الحياة لا حدود للتحليق. لهذا تعرّت «عبير» الشاعرة من كلّ ظنونها ـ إنها صيرورة الشعر العظيم غير المتكلف، بسهله الممتنع:

لأنك حبيبي

أفتح للريح أشرعتي.

لتبني قصيدتها وفق معمار بيانيّ ضاجّ، يترك في متخيّل المتلقّي أثر الشغل، أي أنها تخصّه هو بعينه. لكلٌ منّا قصيدته المنتقاة، يشيدها حسبما يرتأي، ليسمو بوجعه نحو مصافي القول، وكأن لسان حالها يقول: لا تصدّقوا كلّ هذا الشعر، فليس كلّ الرقص طرباً:

احفر على جسدي أيقونة

قد يجد العاشقون رفاتها يوماً

وامضِ

نحو الغياب

لتجدني في خواطرك

أعبث برجولتك

وأغرق في البكاء.

تماهي الشاعرة مع أناها خلق فعالية حكائية ـ دراما القول ـ كاملة الروئ ـ الأفكار والتصورات ـ شكّلت حضوراً ذهنياً لافتاً، أي لحظة الوعي في القصيدة. بمعنى مزج الفكرة مع الشعر، في جلّ القصائد. وهذا لا يتأتى من فورة عبثية غير متّزنة الحواس، بل تتجلّى مفاتنها في عمق المعاني في الصورة الشعرية، أي دلالاتها، والتي لا تسلم المتلقي بيُسر مضمرها، قبل أن يغمض عينيه لبرهة ليعيش الحالة، أي حالة وعي اللحظة الشعرية. بمعنى تيقّظ الفكرة، وهي أصلها. وهنا لا بدّ من الوقوف والتبيان بين لحظة الوعي وحالة الوعي، كما أسلفت:

كي أتمايل بكلماتي

على إيقاع العناق

وأنغرس في لعابكمن دون إضافات

من دون تكليف

وبلا حدود

علّني أتقن الرقص

أعتلي هضاب النشوة

مبللة بالدفء

روحي.

على رغم أنّ نصوص عبير حمدان وشت دلالاتها بـ«شمولية وحدتها العضوية» أي متناسبة الشكل والمضمون والأثر، بقيت أسيرة الرجاءات، التوسّل إلى الحبيب المجافي، لتترك في معظم النصوص، ندوبَ انكسار الشاعرة:

ردّ لي غفوتي فقد مللت سواد الغياب!

حرّر توقي لأتنفسك ملء قلبي.

حبّذا لو يبتلعني يمُّك ويطوّقني بالمرجان.

هذا الانكسار أسّس لعطش أثيم في الروح، فتركها تكابد اليتم «الأصفر» من دون مجيب:

الصدأ يؤلّف طبقاته

وأنا أحرق أصابعي

بألوان المغيب.

وفي مفازة أخرى من مفازات اليباس صرّحت ملء صوتها:

حتى الأحلام تساقطت كأوراق أيلول

حروفي أضحت صفراء

وصحراء عمري لا تعرف عمق أفقها

ولبست أيامي صفير الخريف.

«بعض الحبّ يكفي»، ليس مجموعة نصوص جمعها عابر حبر، بل دعوة مفتوحة تركتها عبير حمدان طيّ الورق، لغائب قد يأتي:

حينذاك أهبك كلّ النجوم المنهمرة

على أرصفة المدينة

وأعلنك وطناً أبديّاً

لعاصمة الروح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى