بعد عملية نيس… هل سَتُخرِج فرنسا رأسَها من الرمال؟

شارل أبي نادر

بعد العملية الإرهابية الأخيرة التي استهدفت عدداً كبيراً من السياح والمواطنين الفرنسيين، حيث قُتل ما لا يقلّ عن 84 شخصاً، مساء الخميس 14 يوليو/ تموز 2016، على الكورنيش البحري في نيس جنوب شرق فرنسا ، حين اندفعت شاحنة اتجاه الحشود المتجمّعة لحضور عرض الألعاب النارية بمناسبة العيد الوطني الفرنسي، وإعلان الرئيس فرنسوا هولاند أنّه اعتداء «إرهابي»، يمكن الذهاب باتجاه التساؤلات التالية:

هل فرنسا هي من الحلقات الأضعف في هذه الحرب الكونية ضدّ الإرهاب لتكون العمليات الإرهابية التي تطالها أعنف وأقسى وأشدّ إيلاماً من تلك التي تطال غيرها من الدول، وذلك لناحية عدد العمليات أو عدد الإصابات أو طريقة وغرابة هذه العمليات؟ أم أنها مستهدفة أكثر من غيرها حيث يركز عليها الإرهاب، وخاصة «داعش» الذي أصبح يمتهن عملياته في فرنسا، و«يتلذذ» في تنفيذها من خلال التحدّي الوقح للحكومة وللمجتمع وللأجهزة الأمنية والعسكرية في فرنسا؟

عملياً، لا يمكن أن نعتبر أنّ السبب في ذلك هو أنّ فرنسا هي ضعيفة بأجهزتها وبإدارتها وبسلطتها في مواجهة الإرهاب، فتاريخ السلطة الفرنسية وأجهزتها الأمنية والعسكرية معروف بقدراتها في هذا المجال من ناحية الإمكانيات الفنية والبشرية والتنظيمية، وهي في الحقيقة من أكثر الدول التي تتصف إجراءاتها بالجدية والثبات، كما أنها من الدول الأوروبية القليلة التي حافظت على نسبة جهوزية مرتفعة لأكثر وقت ممكن، كما أنّ أجهزتها تعمل ضمن نظام طوارئ متشدّد وفاعل، وقد استطاعت الأخيرة إحباط الكثير من العمليات الإرهابية في بدايات التحضير لها، أو على مقربة زمنية قصيرة من تنفيذها، كما أنه لا يمكن اعتبار أنّ الإرهاب وخاصة «داعش» يستهدفها بالذات، لأنه قادر على ذلك أكثر من قدرته على استهداف ساحات أخرى، فالتنظيمات الإرهابية مهما كانت تسميتها، كـ»داعش» أو «القاعدة» أو غيرها، من التنظيمات المتشدّدة الأخرى تمتلك ذات العناصر والقدرات والإمكانيات في الكثير من الميادين الأوروبية، ولها حضور وشبكات ومؤيدون وخلايا نائمة في أغلب دول الاتحاد الأوروبي.

في الحقيقة، ومن خلال استبعاد عجز السلطة الفرنسية عن المواجهة الفعّالة، أو من خلال استبعاد امتلاك الإرهاب لفرصٍ وإمكانيات في فرنسا أكثر من غيرها، يمكن القول إنّ هذه الدولة المستهدفة من قبل الإرهاب كانت وما تزل تضع رأسها في الرمال وهي تذهب إلى الإجراءات النصفية والمبتورة التي تعالج النتيجة والحادثة والعملية الإرهابية، دون أن تسمح لنفسها بأن تذهب بعيداً نحو مصدر هذا الإرهاب، نحو من يموّل هذا الإرهاب ويدفع أموالاً لرعاية شبكاته وخلاياه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، نحو من يحرّض عناصره ودعاته ومناصريه، نحو من يجنّد تلك الأعداد الكبيرة ويخلق لها القدرة والفرصة لتنتقل بعيداً وتتدرّب وتتحضّر دينياً ونفسياً وعملياً، لأن تكون انتحارية وجاهزة لتفجير أنفسها.

فرنسا كحكومة أو كسلطة لا تسمح لنفسها بأن تتوجه نحو من يخدع العالم ويغضّ النظر ويتواطأ ويساهم في خلق قاعدة أساسية للإرهاب، وهي أيضاً لا تحاول أن تلاحظ أو ترى كيف أنّ أبطال الإرهاب ورفاقهم يعيشون في دولة معروفة تسمح لهم بتداول أفلام الانتحاريين على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل انطلاقهم نحو «المهمة المقدسة» كما يسمّونها، دون أن تلاحقهم على خلفية ذلك، أو كيف تسمح لهم تلك الدولة بنشر بذرة الإرهاب عبر التعاليم الوهابية المتشدّدة من خلال جمعيات مرخّصٌ لها في أغلب دول أوروبا والعالم.

لن ينفع فرنسا شيئاً حين تقول: إنّها لن تستسلم وإنّها في عصر جديد يجب أن تتعايش فيه مع الإرهاب، ويجب أن تتحد ضدّه، ولن ينفعها شيئاً حين تقول – أو حتى تنفذ أنها سوف تزيد من تدخلها في سورية وفي العراق ضدّ الإرهاب، فهذا التدخل الفرنسي لن يغيّر شيئاً من فعالية المواجهة من قبل جميع هؤلاء الذين يتدخلون بحذر وبخجل وبمراضاة وبنصف قرار أو بنصف حسم أو بعبارات خفية وغير واضحة ومن دون تسمية الأشياء بأسمائها.

ما ينفع فرنسا جيداً ليس التوجه إلى العراق أو إلى سورية، فالأخيرتان مستهدفتان من الإرهاب، وقد عاث الأخير على أراضيهما دماراً وخراباً وقتلاً وتشريداً وتهجيراً، ما ينفع فرنسا جيداً هو التوجه نحو من أرسل إرهابيّيه إلى العراق وإلى سورية، نحو من يغمض عينيه عن العدد الضخم من مواطنيه الذين اختاروا أن يكونوا أصحاب الرقم الأكبر من الانتحاريين منفذي العمليات الإرهابية، الأكثر دموية في كلّ أصقاع الأرض، وخاصة في سورية وفي العراق.

ما ينفع فرنسا جيداً هو أن تُخرج رأسها من الرمال وتنظر جيداً وبعيداً، ولا تخلق لنفسها حجة واهية وتبريراً لا يمكن هضمه، حين تتحدّث عن السوابق الجنائية لمنفذي العمليات الإرهابية من دون أن تعترف أنّ جميع خلفيات تلك العمليات الإرهابية هي بطبيعتها وبأهدافها تكفيرية متشدّدة، وما يمكن أن يساعدها ويُخرجها من دوامة العنف والإرهاب هو عندما تَخرُج من ذهنية الارتهان لدول ترعى الإرهاب، ولكنها من التي تستثمر في اقتصادها وفي شراء أسلحتها وفي تجارة النفط معها، وفي تنفيذ عقود تجارية ومالية مشتركة معها، وعندما تتوقف عن إغماض أعينها عن تقارير مخابراتها وأجهزتها الأمنية، أو عن تقارير أوروبية وحتى أميركية حول الشبهات والشكوك شبه الأكيدة، لوجود ارتباط جدّي بين الإرهابيين وبين بعض رجال الوهابية من أصحاب المكانة والحصانة السياسية والخاصة لدى حكومة فرنسا!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى