فلسطين البؤرة.. والعرب الهوامش
هاني الحلبي
تطلق الحروب القومية دورة حياة جديدة. فعلى أنقاض ما تهدَّم تنهض عنقاء أمة فتنبعث في كلّ خلاياها قوة الحياة.
كما لم يكن تموز 2006 أول حروبنا، وحروب أعدائنا علينا وحروب يهود الداخل علينا، كذلك لن يكون آخرها.
لكن المحدّد العام في كلّ الحروب التي شنّت علينا هو أننا كنا ردة فعل، وكان العدو في اختلاف أدواره يشنّها مختاراً اللحظة الصفر، مسرح الحرب، طرائقها، مداها الحيوي، مدتها واتساعها الجغرافي ومستوى آثارها وحدّتها.
لأنها حروب الأعداء علينا وليست حروبنا نحن.
نحن أمة مفكّكة. مشوّشة. مبعثرة. ممزقة. مغتصبة روحُها. عابثة ومتعابثة. هالكة ومتهالكة، لولا قبس مقاوم كاد يزهق باطلاً في حين!
كيف لأمة هذه فضائلها المنكَرة ان تحارب. ان تقاتل. أن تقف وقفة عزها لا وقفة عز غيرها.
بعضنا يعاتب العرب لماذا يتكالبون على فلسطين؟ لماذا يتغافلون عن فلسطين؟ لماذا يُهملون فلسطين ويكيدون لها؟ والسؤال الأوجب قبل كل هذا العبث ماذا تعني فلسطين للعرب؟ وفي ماذا تخصّ فلسطين العرب؟ بل مَن هم العرب لتعنيهم فلسطين؟
العرب لفظة سياسية تمّ تداولها في متحف ألفاظ السوق السياسي منذ فرض سياسة التتريك، أواسط القرن التاسع عشر، لأنه لم يبرز بعد الدولة الدينية ما يمكن الاجتماع عليه وبه غير معيار العرب تمييزاً لأقوام في معدودية السلطنة عن أقوام أخرى في المعدودية نفسها. والقول نحن عرب تمييزاً لنا عمّن هم ترك او فرس او تركمان او جلالقة او نورمان وسكسون.. تعريف عابر وعام جداً لا مدلول نفسي وقومي تاريخي له. فلم يحصل للعرب أن تكون لهم دورة تاريخية عمرانية فاعلة واحدة في مرّ تاريخهم ولأمد طويل. وبعد خروجهم من البيئة الصحراوية لم يحافظوا على وحدتهم الإتنية ولا السلالية صافية كما كانوا، بل انبثوا بالتدريج وعبر الأجيال في الدورات الاجتماعية التاريخية التي حضنتها بيئات طبيعية أربع في العالم العربي، فتمايزت هذه البيئات، بحسب ظروف تحدياتها البيئة الجغرافية الاستراتيجية وطبيعة الاستجابة الإنسانية التاريخية لها وتطور هذه الاستجابة.
النظر للعرب المنتشرين من الخليج إلى المحيط أنهم أمة، تحميل ما لا يطيقونه أبداً، لأنهم لم يكونوا أمة ولم تبلغ درجة تفاعلهم هذه المرتبة من الاندماج القومي التام وغير المنقطع عبر التاريخ. بل لا يشعرون في معظم شرائحهم بمستوى الخطر الاستراتيجي نفسه، ولا يستطيعون تحديد هذا الخطر نفسه والنظر إليه من زاوية واحدة، بسبب تنوّع الأخطار والتحديات الناتج عن تنوّع البيئات ومكوناتها الديمغرافية ومحيطاتها. فالمسألة المارونية أو الأرمنية أو السريانية أو الكردية لا يتحسّسها العربي في المغرب، كما المشرقي الذي يستغرب مسألة الأمازيغ ومطالبهم. وما يشكل خطراً على المشرق في تنوّعه وانشداد أقلياته في معظمها إلى الانفصال يستحسنه بعض المغاربة ولا يرون فيه ما يصيب مغربهم من ضعف وتفكك، كما الفارق الجوهري بين قضية فلسطين الفريدة في هذه العصر وبين قضية ساقية الذهب وما تطرحه جبهة البوليساريو التي تديم انقسام المغرب أو هي إحدى نتائجه.
واعتبار تقرير مصير فلسطين هو من حق العرب، ماذا يكون مصيرها إذا قرّرت مصر كبيرة العرب سكاناً استسلامَها وخضوعَها لزعامة الاغتصاب تحت الجناح الصهيوني وقطبه إسرائيل؟ وماذا يكون مصير فلسطين إذا حارت مملكة الرمال السعودية العربية كيف تتسلل إلى المطبخ الإسرائيلي من نافذة مرحاض جانبي لتتعلق بمؤخرة حافلة الاستسلام؟ أنقبل من هؤلاء «الكبار» الذين انهار جيش مصر في 74 دقيقة أمام الطيران الإسرائيلي في يوم ما سُمّي نكسة، ولم يتم تجريب جيش المملكة لساعات في حرب حقيقية سوى على فقراء اليمن البواسل؟ أنقبل أن يكون هؤلاء هم مَن لهم حق في بت قضية فلسطين وتعيين مصيرها؟ وبأي صفة لهم هذا الحق، الصفة المتداولة التباساً بالتسويق السياسي أن فلسطين عربية وهي قضية مركزية للعرب. والعرب لم يروا فلسطين قط مركزاً لسياستهم، لأن الطريق إلى فلسطين طريق جهاد لا تمرّ بقصور الرؤساء والملوك ولا من طاولات مؤتمرات جامعة دولهم البريطانية بل من خنادق المقاومة وأنفاق الجهاد الحقيقي.
لم تكن فلسطين على طاولة القمم العربية الرسمية سوى ورقة ابتزاز او ورقة توت تتغطّى بها الحكومات لتديم شرعيتها في عين الشعوب المدجَّنة. لم تكن فلسطين سوى مبادرة استسلام عربية: «الأرض مقابل السلام»، فهل يطلب المحتلون سلام المستسلمين ليتنازلوا لهم عن الأرض؟ ولمَن الأرض؟ الأرض للأقوياء في مقاومتهم، في حقيقتهم، في قوتهم، في خططهم، في قيادتهم، في مبادئهم، في فدائهم، في عزيمتهم لتحقيق الانتصار.. حتى يضعفوا فتكون حقاً لغيرهم! لنكن أقوياء إذاً!
ماذا فعل العرب ليكونوا أقوياء؟ دمّروا أحزابهم، عطّلوا سياستهم، حكّموا أجهزة امنهم، باروا اقتصادهم، أجّروا نفطهم، ارتزقوا بمواردهم لأسرهم، ونهبوا أوطانهم.. وهذا هو مسار انهيار الضعفاء.
العرب ضعفاء! نعم، إذ يعتبر ملوكهم أن المقاومة المحقة مغامرة تستوجب العقاب والحصار والحرب عليها!
العرب ضعفاء! لأنهم متمذهبون حيث يجب ان يكونوا كلمة سواء وعمران. يُدارون نحو إيران ويديرون ظهورهم لفلسطين والاسكندرون. وقبل سنوات كان من يلهج بلواء الاسكندرون يُحبس لأنه يخلّ بعلاقات الجوار. هل يمكن لأجل عيون الجيران أن نتنازل عن معنى هويتنا وكمال حياتنا وبهاء تاريخنا؟ محال!
فلسطين السيدة تقود أبناءها الميامين ولو شهداء بزعم محاولة طعن، ليصنعوا فرادتها، لم تنتظر يوماً هذه السيدة المهيبة ألوية العروبة ولا أحصنة القبائل ولا الفتح المذهبي، لأنها أرض الرسل والأنبياء وليست قبلة المذاهب والتكايا والأحلاف البدوية الجاهلية الوهابية.
فلسطين البؤرة.. وكل مَن يهملها يؤبد نفسه في الهوامش جنباً إلى جنب العرب القاعدين إلا عن فتنة ضروس فينتخون إذ «لا يُصان الشرف الرفيع من الأذى.. حتى يراقَ على جوانبه الدم!».
فلسطين.. دمُنا منذور لأزكى شهاداتك ولا مَا يستحقه غيرك.. أرض قداسة سرمدية!
باحث وناشر موقع حرمون
haramoon.org/ar