الاحتلال وتخريب الجبهة الداخلية الفلسطينية
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
الاحتلال سعى ويسعى دائماً الى ضرب وحدة الشعب الفلسطيني وتخريب جبهته الداخلية، وهذا الدور ليس بالجديد، بل هو قائم منذ ولادة دولة الاحتلال، وهو يدرك تماماً بأنّ وحدة الشعب الفلسطيني من شأنها ان تشكل خطراً على وجوده، ولذلك وجدنا مثلاً انه لعب على وتر تقسيم شعبنا الفلسطيني في الداخل الى تجمعات سكانية ومجموعات مذهبية ـ دروز وبدو ومسيحيين ومسلمين ـ والهدف من ذلك هو ضرب وحدة الشعب، من حيث تغييب هويته الوطنية وتذويب قوميته، وإدخاله في تناحرات وصراعات طائفية، تارة بإظهار أبناء الطائفة الدرزية او البدو كمتعاونين مع الاحتلال من خلال التجنّد في جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية، وتارة من خلال إعطاء امتيازات للعرب المسيحيين مقابل خدمتهم في الجيش والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية، ولكن هذه المحاولات الإسرائيلية الخبيثة فشلت في استمالة الدروز او البدو كمجموع او كتلة، وبقي التجنّد والخدمة في جيش الاحتلال فردياً، وتشكلت لجان لرفض الخدمة في جيش الاحتلال، وعدد ليس بالبسيط من الدروز آثر السجن على الخدمة في جيش الاحتلال، ولكن الاحتلال واصل خطواته ومشاريعه ومخططاته، في إطار رؤيته بأنّ تزايد العرب في الداخل الفلسطيني وتشكّلهم كأقلية قومية من شأنه تشكيل خطر على يهودية دولة الاحتلال، ولذلك لجأ مؤخراً إلى محاولة التفريق بين أبناء الشعب الفلسطيني بمنح حقوق وامتيازات للعرب المسيحيّين من خلال الخدمة في جيش الاحتلال والتعاطي معهم على أساس أنهم ليسوا عرباً، مما حدا بلجنة المتابعة العربية العليا والقيادات والأحزاب والمؤسسات العربية في الداخل إلى اتخاذ موقف حازم برفض الخدمة المدنية أو العسكرية في جيش الاحتلال ومؤسساته الأمنية، واعتبار ذلك محاولة احتلالية رخيصة للتعامل مع أبناء شعبنا على أساس طائفي ومذهبي وتجمّعات سكانية، وكذلك شطب وتذويب هويتهم الوطنية والقومية، وكيّ وعيهم والسيطرة على ذاكرتهم الجمعية.
بعد استكمال احتلال فلسطين التاريخية، بقي هذا الهدف ثابتاً في إطار استراتيجية ونظرة الاحتلال إلى شعبنا، كبديل ونقيض له على هذه الأرض وتهديد وجودي لبقاء دولته وكيانه، ولذلك صعّد من سياسة بث الفرقة وتسعير حدة الصراعات بين أبناء شعبنا الفلسطيني، وإدخاله في أتون التناحرات العشائرية والطائفية من خلال تشكيل لجان عشائرية مرتبطة به، يُناط بها صلاحيات التحكّم بالأمور الحياتية اليومية للمواطنين، ومع اشتداد المقاومة الفلسطينية وتوسع وامتداد الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كان الاحتلال يجهد في خلق البديل للمنظمة من اجل إضعاف الحركة الوطنية، وتعزيز الفرقة والتناحر والخلاف بين أبناء الشعب الفلسطيني، فعندما جرى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في عام 1979 ، عمل الاحتلال على إيجاد روابط القرى العميلة في محاولة منه للنيل من منظمة التحرير والحركة الوطنية الفلسطينية، ولكن المنظمة بمجموع فصائلها وشعبنا الفلسطيني الملتف حولها، اسقطوا هذا الخيار والنهج، ولكن هناك نقطة في غاية الأهمية، ان الاحتلال الذي يريد تنفيذ مخططاته ومشاريعه المشبوهة تلك، يهدف لجعل وتحويل المعركة بين أبناء الشعب الفلسطيني الى معركة داخلية، بما يضعف اللحمة والوحدة الداخلية، وكذلك حرف الصراع عن قواعدة وأصوله، وهو لم يكتف مثلاً بمحاولة الالتفاف على وحدانية التمثيل الفلسطيني منظمة التحرير الفلسطينية بخلق وإيجاد روابط القرى، بل سعى إلى طرح بديل آخر وهو الخيار الأردني، ولكن أيضاً وعي شعبنا أفشل هذا الخيار.
لم تتوقف محاولات الاحتلال عند هذا الحدّ، بل واصلها بشكل حثيث، حيث انه لعب دوراً بارزاً في قيام الحركة الإسلامية وغضّ النظر عن أنشطة وفعاليات الحركة الإسلامية في قطاع غزة من خلال المجمع الإسلامي، ونحن هنا لا نخوّن الحركة الإسلامية، بل نرى أنها تماشت مع طرح الاحتلال بخلق البديل لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذه المشاريع المشبوهة، وخاضت صراعاً مع منظمة التحرير الفلسطينية، وصل إلى حدّ الاشتباك بين عناصر الحركة الإسلامية وقوى منظمة التحرير بالتحديد الجبهة الشعبية وفتح في غزة وبير زيت وغيرها.
جاء أوسلو وخلق حالة من الاصطفاف والخلاف في الساحة الفلسطينية، بين مؤيد ومعارض، ومن يرى في هذا المشروع والاتفاق ممرً إجبارياً ومكسباً وانتصاراً للشعب الفلسطيني، وبين من يرى بأن هذا الاتفاق له الكثير من المخاطر على الشعب الفلسطيني، وأضراره وتداعياته توازي النكبة، إذا لم يكن أكثر على شعبنا، من حيث تقسيمه للأرض والشعب وهتك وتفكيك النسيج الاجتماعي، ولتثبت التطوّرات لاحقاً بأنّ هذا الاتفاق الانتقالي كما قال شمعون بيرس ثعلب السياسة الإسرائيلية، بأنه النصر الثاني لدولة الاحتلال، ومن بعد ذلك كانت الانتخابات الفلسطينية التشريعية في كانون الثاني 2006، والتي فازت فيها حركة حماس، وما أعقبها من رفض اسرائيلي امريكي وأوروبي لنتائجها، ولتقود لاحقاً الى حسم عسكري وانقلاب قادته حماس في تموز/2007، ولتقم سلطتها في غزة، وليصبح الانقسام واقعاً بين غزة والضفة الغربية سلطتان بمنهجين ورؤيتين وخيارين، الأولى حماس يرفض الاحتلال التفاوض معها، لأنها بحسبه حركة «إرهابية»، والثانية عمادها حركة فتح يخوض معها كيان العدو ماراثوناً تفاوضياً من دون منحها أي تنازلات جدية وحقيقية، وفشل المفاوضات العبثية والمستمرة منذ عشرين عاماً واحدة من الأسباب التي سرّعت في إقامة ما يُسمّى بحكومة الوفاق الوطني، فالاحتلال خلال تفاوضه مع السلطة الفلسطينية، كان يتذرّع بأنّ سلطة الرئيس الفلسطيني ضعيفة وليست لها سيطرة على حماس، ذرائع وحجج لرفض تقديم تنازلات، وعندما أيقن الاحتلال بانه من الممكن أن يعود الفلسطينيون إلى التوحّد، شنّ عدوانه على شعبنا في قطاع غزة، وفي مقدمة أهدافه منع توحّد شعبنا وعودة تواصله الجغرافي، ولكن فشل العدوان في تحقيق أهدافه وصمود المقاومة وانتصارها أربك حسابات العدو الذي سعى إلى إفشال حكومة «التوافق الوطني» عبر نشر أنباء تتهم حماس بخطف ثلاثة مستوطنين في الخليل، والذين وجدوا مقتولين لاحقاً، وجاء العدوان على غزة لكي يواصل الاحتلال لعبته ومساعيه لتخريب الجبهة الداخلية الفلسطينية، عبر نشر أخبار كاذبة وملفقة تستهدف إيقاع الفتنة بين حماس وفتح ، وعندما شعر الاحتلال بأنّ الموقف السياسي الفلسطيني موحد وبوفد واحد في القاهرة، وأنّ الوفد ملتفّ حول مطالب المقاومة، خرجت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية «الشاباك» لكي تنشر فبركات إعلامية عن هيكلية لخلايا من حماس في الضفة الغربية سعت إلى الاستيلاء على السلطة في الضفة الغربية، بهدف مشبوه ومقصود، هو تفكيك وحدة الموقف السياسي الفلسطيني، والضغط على الوفد الفلسطيني للموافقة على الشروط والمطالب الإسرائيلية، في ما يخص التهدئة والهدنة، وأيضاً إفشال أيّ مشروع يستهدف استمرار وتطوير عمل حكومة «التوافق» الوطني، ومنه عودة الوحدة الجغرافية بين الضفة والقطاع، وعدم إعطاء حماس الشرعية من قبل المجتمع الدولي، وخصوصاً انّ امريكا واوروبا اعترفت بحكومة التوافق الوطني.
الاحتلال سيستمرّ في مساعيه وأهدافه الخبيثة لضرب وحدة الموقف الفلسطيني، ولإبقاء الانقسام وشرعنته وتكريسه، لكي يواصل رفضه وتعنّته الاستجابة لمطالب شعبنا الفلسطيني في الحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وعودة لاجئيه، ولكن علينا اليقظة والحذر والعمل على إفشال مخططاته ومشاريعه المشبوهة.
Quds.45 gmail.com