صور تودّع مهرجاناتها الدولية لهذه السنة… والعين على نجاحات مقبلة
ودّعت درّة البحر الأبيض المتوسّط مدينة صور مساء السبت الفائت مهرجاناتها الدولية، التي عادت بعد اغتراب قسريّ امتدّ لسنوات خلت، ومعيدةً إلى المدينة وهجها وألقها، وحضورها على الخريطة الثقافية الفنية، كلّ ذلك بفضل الجهود الجبارة التي تبذلها لجنة مهرجانات صور الدولية برئاسة السيدة رندة برّي ومعاونيها، ولا ننسى الدعم الجماهيري الذي تجلّى هذه السنة بأبهى حلله حضوراً وتميّزاً.
اللبنانيون عموماً، والصوريون خصوصاً، ومعهم جمع غفير من السيّاح الأجانب، كانوا على موعد مع عددٍ من الفعاليات الثقافية والفنية. من الشعر والنظم وحلو الكلام، إلى الرقص والجسد عندما يفرض لغته ثقافةً وعادات وتقاليد، إلى الطرب الأصيل واللحن الجميل، مع مطرب تطرب له شمس الأصيل.
علامة مميّزة إضافية تحوزها برّي، المرأة التي لا تهدأ فتراها هنا وهناك ناشطة ونشيطة، تبرهن أنّ للمرأة اللبنانية حضورها في الميادين شتّى، وأنّ هذا الحضور الفاعل هو الذي ينتزع حقوقها المحقّة، لا إصدار البيانات ولا تكرار الأقوال فقط، فالأقوال وفق قاموسها إن لم تقترن بالأفعال، تبقى مجرّد شعارات سيكون طريق تحقيق المطالب عبرها طويل طويل.
وبالعودة إلى مهرجانات صور الدولية 2016، فقد شهدت في أيامها الأخيرة ثلاث فعاليات كبيرة ومتنوّعة، من الشعر إلى الرقص الاستعراضي الروسي، إلى الموسيقار أبو مجد ـ ملحم بركات الذي أطرب الحضور حدّ الثمالة.
مهرجان الشعر
خلطة شعرية قدّمها نخبة من شعراء الصف الأول من العراق وسلطنة عُمان ومصر وتونس لبنان، استأنس بهم الحضور الذي غصّت به مدرجات الملعب الروماني في صور، فتعالى التصفيق والانفعال مع القصائد التي لا تشبه الواحدة أختها.
بدأت الليلة الأدبية مع فرقة «بيت أطفال الصمود» التي أنشدت النشيد الوطني اللبناني ونشيد «موطني»، وبعد تقديم من الشاعر الدكتور مهدي منصور، ارتقى الشعراء إلى المسرح ليلقوا أجمل قصائدهم التي تحاكي لبنان ومدينة صور بالأخص، وليبدعوا في إلقاء نَظْمهم، بأسلوبهم المميز، لتنال مواضيعهم إعجاب متذوّقي الشعر.
البداية مع الشاعرة بلقيس حسن الآتية من بلاد خليفة العباسيين هارون الرشيد حاضن الشعراء والأدباء في ذلك الزمان، من بغداد حملت معها أسئلة عن مكنونات هذا الكون، فجّرتها بأسئلة عن العشق في القلب والشوق المحترق المغادر إلى المدى البعيد ليصل إلى الإله. أبدعت ابنة بغداد عندما عبّرت عن مشاعرها الجياشة، وهي بين الأرض والسماء آتية لإلى بلاد الجمال والفن والنضال إلى لبنان. في هذه الأرض الأرواح تناديها لتستفيق من غفوة الطين على أرض الجنوب، وإذ بقوافي الشعر تنبت من مليتا وأرنون إلى آخر معزوفة القرى التي احتضنت المقاومة والأحرار. ساخرةً من صمت العرب عن الجراد الذي يغزونا. أما شاعر المرأة والجمال عبد الله العريمي، ابن مدينة صور في سلطنة عُمان فلم يشعر بالغربة، فصور التي جاء منها شريكة صور الآتي إليها، بالتاريخ والآثارات والجمال وبساتينها التي تعبق برائحة زهر الليمون، فسكب كلمات الحبّ والعشق بأسئلة عمّن أحب. وكيف الطريق إلى البيت الذي يحتضن الذكريات ومناديل أمّه التي زينته، ومرّ على حالنا الحاضر بهوامش على هامش الحرب وانتهى بأنه لا يريد من العمر غير الذي يتنوّر بالشعر.
ومن صور العُمانية إلى تنورين اللبنانية، انتقل بنا رئيس ملتقى الهيئات الثقافية الشاعر القومي غسان مطر بوقفة وجدانية حاملاً عذابات المبدعين والشعراء الذين ذُبح أبوهم أبو علاء المعري على يد «دواعش» هذا الزمان، مخاطباً إياه راثياً قلبه الذي أصبح رماداً، وشعره الذي لا يمتلئ إلا بالآهات والدموع على فلسطين المذبوحة، والقدس المباعة، والعراق المخطّط له التجزئة والتقسيم، ودمشق وصدرها المعطاء. خاتماً: أين الضمير؟ وأين العقل المستنير؟ بل أين المبدعون؟ أما المنصف المزعني، وهو من شعراء تونس المعروفين، فكانت له قصة أخرى مع الشعر، قرأ قصائد بأسلوبه الساخر. بل أخذ السخرية إلى أسلوب إلقاء تمثيليّ مسرحي، وألقى قصائد مزج فيها الغناء والانفعال التعبيريّ، فتفاعل معه الجمهور وشجّعه طالباً المزيد، فكانت له حصّة الأسد من الوقت المحدّد للشعراء.
ومن مصر أرض الكنانة، أتى إلينا ببعض من قصائده الشاعر المحكيّ علاء الجانب، متغزّلاً بحبيبته صور الدلال الحر، بأرقّ العبارات، مستغرباً هذا العشق والغرام المسافر معه أنى كان وحلّ. سائلاً أين الحسين ونعشي ذلك الشوق، وخاتماً بسخرية من الحالة العربية «نام الضمير فنم يا أيها الأرق».
ومسك الختام كان لشاعر المرأة والجنوب ابن زبقين ـ صور الشاعر المرهف شوقي بزيع، الذي قدّم للمرّة الأولى جديده بقصيدة كتبها للمناسبة، لصور أمّ الأبجديات، أمّ قدموس وأليسار بانية قرطاج، عروس الجنوب، صور التاريخ العريق، صاحبة العلاقة المفتوحة بين السماء والأرض. فشوقي بزيع هو هو لا يتغيّر مهما طال الزمان، يرافقه الشغف نفسه، والحبّ نفسه، والانفعال نفسه، والعشق نفسه الذي نعرفه. في قصائده تنساب الكلمات المفتوحة بين الأرض والسماء، مرآةً للزمان. وختم بقديمه المتجدّد دائماً بإلقائه، فكانت قصيدة «قمصان يوسف» الوجدانية.
اختُتمت السهرة بتكريمٍ من رئيسة مهرجانات صور الدولية رندة عاصي برّي، فقدّمت لكلّ شاعر مشارك «بورتيه» بريشة الفنان فهد باكير رسمها أمام الحضور مباشرة بينما كانوا يلقون قصائدهم، وذلك بحضور رئيس الحركة الثقافية في لبنان الشاعر بلال شرارة، والفنان نعمة بدوي، وعريف الأمسية الشاعر مهدي منصور.
روسيا كانت حاضرة
مشهدية روسية جمعت 55 راقصاً وراقصة من «State Academic Dance Gzhel ـ Theater» التي أسّسها فلاديمير زاخاروف عام 1982، وتزامن عرضها في صور مع ذكرى وفاة زاخاروف الثالثة.
أدّى الراقصون والراقصات رقصات تميّزت بالتنوّع والخليط بين العادات والتقاليد الروسية، وبألوان ربيعية زاهية مبهرة للنظر، وكأن الربيع الروسي النادر ينتقم من شدّة قساوة الشتاء الطويل، ليحطّ على المسرح، فراشات ملونة بألف لون ولون، تتمايل غنجاً ودلالاً لتأسر قلوب الشباب كما قلوب الجمهور، في كلّ الأزمنة والبلدان. فالصبايا يُظهرن عدم الاهتمام بالشباب، لكن قلوبهنّ ترتجف لجذبهم إليهنّ، وذلك في قالب راقص، وكأنهنّ دمى تحركهنّ بطاريات وفق الإيقاع نفسه. والشباب ثائرون يقفزون بين الأرض والسماء بحركات بهلوانية.
الجمهور الذي احتشد في مدرج الملعب الروماني، أبحر من شاطئ صور إلى جنوب روسيا وشمالها ووسطها، وصولاً إلى بيلاروسيا، في أقدم تراث شاهدناه وللمرّة الأولى في لبنان وفي الشرق الأوسط. إذ سيُكتب لمهرجانات صور أنها كانت السبّاقة في إحضار هذا الفنّ الراقي إلينا، وهو ما عبّرت عنه رئيسة المهرجانات رندة عاصي برّي، التي لفت انتباهها إعجاب الحضور بأداء الراقصين الراقي، وبالثقافة الروسية العريقة، وهو ما تهدف إليه المهرجانات التي لا تتّسع إلا لأمثالهم.
اما عقيلة رئيس محلس الوزراء لمى تمّام سلام التي كانت حاضرةً أيضاً، فعلّقت على ما شاهدته بالقول: ليس غريباً على لبنان بلد الثقافات المتعدّدة والحضارات القديمة، أن نرى على ملعبه حضارة عريقة كالحضارة الروسية، ليتم التفاعل بين الحضارتين اللبنانية والروسية.
رئيسة لجنة مهرجانات بيت الدين نورا جنبلاط التي حضرت العرض أيضاً قالت إنّ عرض « Gzhel» الروسيّ أروع ما شاهدته حتى الآن في المهرجانات اللبنانية.
أبو مجد يُحْيي مجد الأغنية
نعم، إنه ملحم بركات، مجد لبنان الآتي من الزمن الجميل، زمن الرحابنة الذين بدأ معهم مشواره الفني الطويل، ابن كفرشيما بلدة فليمون وهبي وحليم الرومي وعصام رجّي، الموسيقار الكبير الذي استطاع أن يكون الأقوى والأجمل بين أبناء جيله وبين الشباب. شيباً وشباباً كانوا على الموعد مساء السبت في ختام مهرجانات صور الدولية، جاؤوا من مختلف المناطق اللبنانية، فغصّت بهم مدرجات الملعب الروماني في صور، رقصاً وطرباً وتمايلاً وتفاعلاً مع قديم بركات المتجدد بحضوره الآسر وبإطلالته المحبّبة، وظُرفه النادر، وبقبول جمهوره للطرفات التي مرّرها، وجديده المتألق بثباته، فكان للّيلة الأخيرة من مهرجانات صور الدولية قمران: قمر يطلّ من السماء فيضيء هياكل الرومان ومئات الأعمدة والنواويس، وقمر يطلّ من على مسرح الملعب الروماني، يصدح بصوته الشجيّ العريض. كيف لا، فيحق لسفير الأغنية اللبنانية ما لا يحق لغيره، وهو الذي غزا العالم بأغانيه ولم يغنّ إلا بلغة بلده ولهجته.
الكاميرا تعشقه كما يعشقها، يعطيها أجمل اللقطات عندما تقترب منه، وكأنه يغمرها. وعده الأول معنا ومع جمهوره كان مع أغنية «موعدنا أرضك يا بلدنا، مهما تغرّبنا وتعبنا»، وكأنها رسالة شكر لمهرجانات صور، لإفساح المجال له في لقاء جمهوره بعد طويل غياب عنه، وهو الذي خبره من على هذا المسرح بالذات من قبل.
جاء إلى أرض المقاومة وهو المقاوم، ليبقى في زمن فوضى الغناء المدمر، والألحان الهابطة واللغات واللهجات المتعدّدة في السوق الغنائي، وأرسل عبر هواء صور سلاماً للحبيبة الغائبة طالباً منه أن يحكي لها «عللي جرى» بحاله، ولكثرة كذب الحبيب عليه، والعذابات التي لقيها منه، أصبح يعدّ الأيام التي تمشي بدمعة منسية على رمشه، وبالآهات الصاعدة من القلب إلى الرأس مروراً بحنجرة ذهبية.
وكاستفاقة للذات، تذكّر بركات أن امرأته حلوة «متل البدر ولن يطلقها»، وكذلك لن يطلّق الغناء ما استطاع إليه سبيلا.
أما جديده الذي قدّمه للمرّة الأولى من على مسرح التاريخ في صور، «أنا حبيبك، انا ليلك، أنا شمسك»، للمؤلف العبقري الشاعر نزار فرنسيس رفيق مشواره الفنّي منذ 22 سنة، وأهدى الأغنية لأم باسل، رئيسة مهرجانات صور الدولية عقيلة رئيس مجلس النواب السيدة رندة عاصي برّي، كعربون محبة وتقدير لها ولجهودها الجبارة، المساهِمة في نشر الثقافة والفنّ من خلال مهرجانات صور.
أبو مجد طلب من الجمهور الصراخ والتصفيق عالياً ليصل الصوت إلى «أبي مصطفى» الرئيس برّي في عين التينة، لأنه خبِر الرئيس نبيه برّي الداعي إلى الوحدة وعدم التفرقة، ورافض التشرذم، فاستجاب لدعوته بقدّاس بيزنطي وأذان الصلاة وبنشيد «كلّنا للوطن»، فلبّى الجمهور النداء، وصفّق ووقف طويلاً تحية له وللعلم اللبناني الذي رفرف في سماء صور عبر الشاشات العملاقة، وعبر الإنترنت الذي ساهم في بث وقائع هذه الليلة في أرجاء العالم كافة حيث ينتشر اللبنانيون، ليستمتعوا بليلة من أجمل ليالي المهرجانات التي ودّعنا بها بقديمه «على بابي واقف قمرين، واحد بالسما»، التي أخذنا إليها بصوته الواصل إلى السماء.
الموعد في 2017
ودّعت صور مهرجاناتها الدولية لهذه السنة، لتعود في السنة المقبلة كما وعدت برّي التي كشفت أنّ التحضيرات لنسخة 2017 ستبدأ في أيلول المقبل، نظراً إلى النجاح الذي تميّزت به هذه السنة، على رغم قُصر المدة الزمنية للتحضير. فلجنة المهرجانات قرّرت في أيار الفائت إعادة إحيائها بعد انقطاع دام لخمس سنوات.
تصوير: علي فواز ــ محمد أبو سالم