«باربي السوداء» للعُمانيّ سالم الجابري… ظلال البنية الحكائية الشهرزادية

يوسف حطيني

سأعترف، أنا العاشق المتيّم بالسرد، أنني لم اقرأ منذ زمن طويل رواية تشبه «باربي السوداء» للكاتب العُماني سالم الجابري. فهي رواية مثيرة، تصدمك بإيهام البنية كلّما تقدّمت في قراءة صفحاتها: تغويك الصفحات الأولى برواية حديثة، تُسلمك إلى حكايات شهرزادية متداخلة، لتنتهي بك إلى حكاية واحدة تتناسخ فيها الشخصيات، وتنصهر الحكايات، عبر الاستعانة بالزمن الغرائبي في إغلاق دوائر الحدث.

إنّ حكاية الرواية الأساسية هي حكاية «باربي السوداء» مع «ساعد»، «باربي السوداء» التي تعشق نقيضها الأبيض، لأنّ جيناتها تتوق إلى أضدادها، وتظنّ أنها تميل إلى «ساعد» الذي التقته في اليوم الأول من عملها في الفندق، ولكنّه يحكي لها حكايته مع «جواهر»، قبل أن ينتقلا إلى الماضي في رحلة غرائبية، تنتهي بـ«ساعد» نسيخ حنظلة إلى عشق «زمرّدة» نسيخة جواهر ، وبها إلى عشق «أبي داود الكحلي» الذي يعشق «تارا» في زمن السرد الماضي ، لتنتهي حكايتها بعشق جديد.

أما «ساعد» الذي يعمل في الفندق، فيحكي لـ«باربي» حكايته مع «جواهر» التي جاءت إلى المشفى الذي كان يعمل به، وقد أصيبت رجلها على إثر وقوعها عن الدراجة النارية، وترجوه، لسبب لا يعلمه أن يقول إنها زوجته، فيفعل ذلك، ولكنّ قلبها سرعان ما يتوقف، فيستلم جثتها، وفي البيت تعطس عطسة الحياة، وتقوم بينهما علاقة حميمة، تنتهي باختفائها. وحين تسأله «باربي» عن الخزانة الموجودة حيث يعملان يلفت نظرها سوارٌ تتخذه وسيلة للسفر نحو الزمن الماضي.

إلى هنا يبدو كلّ شيء طبيعيّاً، باستثناء توجيه خطاب «باربي» إلى كائناتها الصغيرة التي ترافقها في كلّ مكان. غير أنّ الأمر لا يستمرّ على هذا النحو إذ تدخلنا الرواية في حكايات ذات بنية شهرزادية، غير أنّ هذا الإيهام بالخروج عن الحكاية الأساسية يزيد السرد فتنة حين تدخل «باربي السوداء» ذات النظريات الغريبة في البنى الوراثية والكيماوية، وفي تشكّل الأجسام واتحادها وتناسخها السرد الشهرزادي من أوسع أبوابه، لا لتكون شاهدة عليه، بل طرفاً مشاركاً فيه، عبر الاستعانة بزمن السرد الماضي، فتصبح جزءاً من شخصياته وبيئته، وتعيد صوغ بعض المقاطع السردية في ذلك الزمن، بأحداث توازيه من زمننا الحاضر، وتكشف منذ بداية دخولها ذلك الزمن عن «ساعد» حنظلة الذي يحتفظ بِاسمه الحديث في السرد الماضي، حتى لا يكشف شخصيته الحقيقية التي يبحث عنها الوالي، حيث يصادف الفتاة زمرّدة وهي تبكي على قبر والدها، ويتعلّق بها، فتغار منه «باربي» غيرة عمياء لأنها تطمح إلى حبّه، فهو في نظرها وهي القادمة من زمن آخر «ساعد» موظف الفندق في السرد الحاضر. وتبقى على غيرتها، حتى يمرّ بهم «أبو داود الكحلي» و«عامر»، وهما في طريقهما من أجل الحصول على اللؤلؤة التي تصبح لآلئ: فكل واحد يريد لؤلؤة لحبيبته ، ومن أجل القبض على «حنظلة» المتخفّي بشخصية «ساعد».

وهكذا تقع «زمرّدة» وتنكسر ساقها، فتتهمها «باربي» بتمثيل الألم، نتيجة غيرتها فهي إذاً ستغار من نسيختها «جواهر» التي حكى لها «ساعد» حكايتها ، ولا تتفهم وجعها الحقيقي إلا حين تحبّ «أبا داود الكحلي» الذي يحصل على لؤلؤتين: يحتفظ بالأولى من أجل حبيبته «تارا»، ويعطي الثانية لـ«حنظلة»/ «ساعد» الذي يعطيها لـ«زمرّدة»، فتطلب منه أن يجعلها سواراً بثلاث فيروزات، تدفن معها حين تموت.

ثم يستسلم «حنظلة» ورجاله بضع عشر رجلاً لـ«أبي داود الكحلي»، ويسيرون نحو قصر الحاكم الذي يفرح بصيده الثمين، قبل أن تفصح جموع الناس عن حصان طروادة جديد إذ ينشق الميدان، بجماهيره الكثيرة عن خلايا نائمة لـ«حنظلة»، تستيقظ حينذاك لتفكّ أسره، وتحاصر الحاكم، وتعيد الحق إلى نصابه.

وإذ ذاك يوّدع «أبو داود» «باربي» سائراً نحو محبوبته «تارا»، وحين تسأله ألا يتركها تحبّه، يخبرها أنّ «سعيد» الذي كلّفه «حنظلة» بإعادة دفن سوار «زمرّدة» قرب قبرها، هو من أشجع رجاله وأذكاهم، وهو جدير بها.

وتنفتح رواية «باربي السوداء» على سرد مؤنّث، بصيغة المفرد المتكلم الذي يوجّه حديثه إلى الجمع المخاطب: «أهلاً… أهلاً… حللتم أهلاً ووطئتم سهلاً… على رغم أنني مشغولة بالتزيّن أمام المرآة إلا أنّ الحديث إليكم يسعدني ويبهجني».

ويحقّق هذا السرد إثارته من وجهتين، تتمثل الأولى في كون الروائيّ سالم الجابري رجلاً سيتحدّث بلسان المرأة، بما ينطوي عليه ذلك من فتنة، والثانية في كون استخدام صيغة الخطاب في السرد، على قلة ذلك، تتيح اقتراباً من نوع ما مع المتلقي الذي يعدّ نفسه، كما تعدّه اللغة، جزءاً من الفئة المستهدفة مباشرة بذلك السرد.

إنّ هذه الكائنات الصغيرة المخصوصة بالخطاب ترافق «باربي» في كلّ مكان، تستريح على كتفيها، أو في حقيبتها، أو فوق كتاب من كتبها، أو في الخزانة، ولا تبتعد عنها إلا حين تريد تغيير ملابسها، لأن «باربي» خجولة إلا حين ينتصر الخوف على الخجل ، وهي تجد في تلك الكائنات متلقياً حيادياً لا يربك السرد بتدخلاته، فتحكي لهم عن نفسها، وقناعاتها، ورؤاها، بسرد لا يخلو من التشويق: «أنا أختكم باربي السوداء، هكذا أخاطب نفسي خصوصاً عندما أتزيّن. لون بشرتي أسمر، ليس بالضبط أسمر، بل أسود كالمسك، أو كالقهوة التركية السادة». وهي تنطلق من لونها لتؤكّد على السعي إلى كمالها من خلال نقيضها الأبيض، وتعتذر لجميع ذوي البشرة السوداء الذين تقدّرهم، لأنها ترغب في الزواج من رجل أبيض: «أحبّ شرب القهوة بالحليب».

وهي جديرة بأن تكون شهرزاد الحكاية إذ تسرد لهم عدداً من الحكايات التي تنثرها، لتعيد تجميعها لاحقاً في حكاية واحدة، فتسرد لهم/ لنا من الزمن الماضي حكاية «عامر» مع أمه، وحكاية «أبي داود» مع «تارا»، وحكايتهما مع قارع الطبل. كما تسرد لهم حكاية «حنظلة» مع عمه، ومن الزمن الحاضر تسرد حكاية «طارق» الذي حَمَل بحسب تشخيص الطبيب قبل الزواج، فتزوّج من «غدير» ستراً للفضيحة، وحين يختفي انتفاخ بطنه تفاجئه زوجته بأن حمله قد تدحرج إليها، وأن عمر الجنين ثلاثة أشهر، على رغم أنّ زواجهما حدث قبل شهر ونصف الشهر، وإذ تنجب غلاماً أسمر تتّهم زوجها صاحب الجنين الأصلي بأنه كان قد حمل من «كونوا» الإثيوبية!

ثم تسرد «باربي» لنا، بوصفها ساردة مشاركة، كيفية دخولها عبر ذرّات السوار الذي تجده في خزانة الفندق، وحكايتها مع فرسان ذلك الزمن التي أشرنا إليها، لتنتهي الرواية من دون أن تتيح للسارد الذكر فرصة مشابهة في السرد. فعلى رغم أنّ الروائيّ رجل، فإنه لم يسمح لذكورته أن تمارس سطوتها على السرد، مكتفياً بإعطاء «ساعد» مهمة سرد أقلّ من ثلث الفضاء النصّي من وجهة نظر ذكورية، متيحاً له سرد حكايته مع «جواهر» لـ«باربي» التي يشدّها الاستماع إلى الحكاية، ولكنها سرعان ما تملك زمام السرد من جديد.

وهكذا، فإنّ الدوامة الحكائية التي يعيشها القارئ أثناء قراءته النصّ، هي من النوع الذي يحفّز الخيال الذي ينتقل من سوق «مطرح» وقهوة الحطب، إلى أجواء ألف ليلة وليلة. وكم يحتاج المبدع العربي إلى هذا النوع من التجريب المستمر لينتج روايات غير تقليدية، ترسم وجهاً جديداً للرواية العربية. وبقي أن نقول في النهاية: ثمة في الرواية أخطاء لغوية، لم يخلُ منها حتى الغلاف، وهي أخطاء لا تليق بسحر السرد وفتنته.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى