بيتر براون: هذه حقيقة سقوط روما ونشأة القسطنطينيّة

كتب حسّونة المصباحي: يتّفق العديد من المهتمين بالتاريخ القديم على أن المؤرخ بيتر بروان المولود في العاصمة الإيرلندية دبلن عام 1935، هو واحد من أكبر المتخصصين في العصور الرومانيّة. تتميّز أعماله بالصرامة والجديّة، كانسة العديد من الكليشيهات الشائعة منذ أمد بعيد. ومن أهمّ أعمال براون كتاب عن سيرة القديس أوغسطين كان أصدره في الثالثة والثلاثين من عمره ليحصل بفضله على شهرة عالمية واسعة.

يصف المؤرّخ الفرنسيّ الكبير بول فاين، وهو أستاذ كرسيّ في معهد دو فرانس، طريقة بيتر براون كالآتي: «لا شيء في اليدين، ولا شيء في الجيب»، ومعنى ذلك أن هذه الطريقة بسيطة وسهلة، لكنها ناجعة إلى حدّ كبير.

في أحد الحوارات التي أجريتها معه، يقول بيتر براون مجيباً عن سؤال يتعلق بسقوط الإمبراطورية الرومانية، منتصف الألفية الأولى، تحديداً عام 476: «إن هذا التاريخ لا يعني شيئاً كثيراً. وما حدث هو أن إمبراطوراً رومانياً يدعى روميلوس أوغستينوس تخلّى عن السلطة سلميّا. وقد فعل ذلك مقابل راتب يعادل راتب عضو في مجلس الشيوخ يعيش في المنفى. كما حصل على فيللا فخمة تشرف على بحر مدينة نابولي الإيطالية. ولا أعرف مصدراً غربيّاً واحداً يقول بأن هذا التاريخ، أي عام 476، مهمّ، أو خطّ فاصل بين مرحلتين. وفي بلاد الغال وجرمانيا وإيطاليا وأفريقيا، وهي جميع المناطق الخاضعة لإدارة روما، لا نعثر على أيّ أثر يعطي أهمّيّة حتى لو كانت صغيرة لهذا الحدث الذي نعرفه من خلال مدوّنات أنجزت في القسطنطينية، تلك المدينة الشرقيّة التي زعمت أنها قادرة على تأمين تواصل الإمبراطورية الرومانية. ورغم أن هذا الأمر يبدو صعب التخيّل، لا بدّ من الانتباه إلى الجزء الذي ظلّ حيّاً بعد انهيار إمبراطورية روما، والذي سوف يسطع انطلاقاً من مكان جديد يدعى اليوم إسطنبول».

يتابع بروان قائلا: «إن تحوّل الإمبراطورية هذا، الذي تمّ في اتجاه الشرق انطلاقاً من عام 500، مهمّ جدا بالنسبة إلى طريقة فهمنا للتاريخ، إذ أنه يوضح كيف أن الإمبراطورية الرومانية في الشرق أرادت أن تضع حدّا للطور الغربي. وفي هذه المرحلة تأسست ممالك محليّة يتعايش فيها المدنيّون والعسكريّون، وهاتان الفئتان الاجتماعيتان وجدتا أنه من المفيد لهما أن تسمّي كلّ واحدة منهما «بربرية» لضمان استقلاليتهما حيال نظام مركزي، تماما مثل مرتزقة روما الذين حصلوا على مرّ القرون على نوع من الاستقلالية حتى أنهم أصبحوا بمثابة الدولة داخل الدولة».

لكن ما معنى كلمة «بربري» عهدذاك؟ عن هذا السؤال يجيب بيتر براون: «من المؤكّد أن كلمة بربري لم يكن لها في ذلك الزمن المعنى المتعارف عليه اليوم. فلم يكن لهذه الكلمة معنى إثنولوجي، ولم تكن تهدف إلى الإشارة إلى غريب أو إلى مجموع من الناس ينحدرون من حضارة برتبة أدنى. كانت بالأحرى كلمة تحدّد هويّة اجتماعيّة معيّنة. فالبربريّ هو رجل يمارس مهنة السلاح في مقابل الرجل الذي يخدم الأرض مثلاً. وإذا كان الأول يقول اختياريّا إنه «بربري» فإن الثاني يطالب بأن يكون مواطنا رومانيّا». «وهذا الفصل بين العسكريين والمدنيين كان مقبولاً جدّا على مدى القرن السادس. وبقبولهم هذا الفصل أضحى معمولاً به حتى في القطاعات البعيدة يمكن القول إن الرومان هم الذين مهّدوا بطريقة أو بأخرى لظهور البرابرة الذين سيعوضونهم. «بعد سقوط روما، باتت سلطات القسطنطينية التي كانت ثانوية، تتصرف كأنها رومانية أكثر من الرومان، مطوّرة مع مرور الزمن عدّة تفوّق. حتى الجنود والمرتزقة البرابرة الذين كانوا في خدمة بيزنطة باتوا يعلنون أنهم رومان. بعد ذلك وجدت السلطة المركزية في القسطنطينية نفسها عرضة لغزوات جديدة، ما أفرز عداء ضدّ «البرابرة».

عن القسطنطينية يقول بيتر براون: «نتصوّر أن عاصمة بيزنطة هي في النهاية إغريقية من ناحية الفكر. لكن عام 500 كانت القسطنطينية رومانية لا إغريقية، ذلك أن الرومان كانوا يسيطرون آنذاك على الجزء الهيليني من البحر الأبيض المتوسط منذ ستة قرون! وما تميّزت به الإمبراطورية الرومانية الشرقية على المستوى التاريخي هو التعدّد اللغوي والثقافي. اليوم تفرض علينا ثقافتنا الأوروبية المتأثرة بالنزعة القومية الاعتماد بأن الوحدة السياسية والقوّة تتناسبان بالضرورة مع الوحدة اللغوية والثقافية. غير أن القسطنطينية شكّلت العكس تماماً. هذا ما فهمه الأميركيّون جيّداً». كانت الإمبراطوية الشرقيّة إغريقية الثقافة ولاتينية اللغة. وهنا أقدّم مثالين مهين جدّا: المثال الأول هو العدد الهائل للقواميس اللاتينية والإغريقية، والكتب المترجمة التي عثر عليها علماء الآثار في مصر على سبيل المثال. كما عثر أيضاً في عدّة مناطق من الشرق الأوسط على مؤلفات كاملة في مجال القضاء. ولا نجد شبيها لذلك في المناطق الغربية للإمبراطورية الرومانية، لا في إيطاليا، ولا في بلاد الغال، ولا في أيّ منطقة أخرى». «بات واضحاً الآن أن ما نسمّيه اليوم بالقضاء الروماني، وهو مصدر جميع التشريعات القضائية في الغرب هنا، هو في الحقيقة ثمرة تراث القضاء البيزنطي. واستناداً إلى ذلك يمكن القول بأن القسطنطينية أثّرت في الغرب أكثر مما أثرت فيه روما».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى