الشاعر المصريّ محمد عيد إبراهيم: لا وجود لـ«آدم» في الشعر
كتب عبد الحاج: استطاع الشاعر المصري محمد عيد إبراهيم عبر أحد عشر ديواناً بدءاً بـ «طور الوحشة»وصولاً إلى «السندباد الكافر»مروراً بـ«فحم التماثيل»، و»بكاء بكعب خشن»، و»على تراب المحنة»وسواها أن يبني خصوصيته الشعرية، إلى كونه من المترجمين المهمين الذين احتفوا بترجمة الشعر والرواية. فترجم من أعمال بورخس وموريسون وكونديرا وآخرين. وفضلاً عن منجزه الشعري أنشأ الشاعر سلسلة «آفاق الترجمة»التي تصدرها هيئة قصور الثقافة.
مضى زمن منذ على بدء عيد إبراهيم رحلته الشعرية بديوان «طور الوحشة»الصادر عام 1980، وعن دوافعه للكتابة اليوم مقارنة بما كانت عليه ماضياً يؤكد أنه لم يسبق أن أراد شيئاً من الشعر يوماً، لا شهرة ولا مالاً ولا أيّ شيء، بل مجرد رغبة ضاغطة في الكتابة. وكان ولا يزال ضدّ أيّ سلطة مضطهِدة، حتى في الشعر. ويعتبر أن الزمن يدور باستمرار، إذ كبر فجأة ولم يعد يرضيه ما كان يكتبه في الماضي من حذف لحروف الجرّ والعطف ومحاولة تقطيع السياق وترك الكثير للقارئ يستكشفه في القصيدة، ففي رأيه كلّ امرئ يتغيّر ويُبدّل جلده بين الحين والآخر، مع أن العمود الفقريّ للشعر يظلّ واحداً تقريباً، لكن اللباس مختلف في كلّ حين. ويتابع قائلا: «أين يمضي بي الحال؟ لن أعرف حتى أضع آخر نقطة في حياتي. هناك وعي قطعاً بما أفعله بالقصيدة، لكن إلى أين يقودني هذا الوعي، لا أعرف، وأفضّل ألاّ أعرف، حين تعرف ماذا تريد من الشعر تتوقّف. المجهول يظلّ أمامي فلاة واسعة، ما يجعلني أكتب ثم أنقّح في كلّ قصيدة جديدة ما كتبت سابقاً، وهكذا دواليك. لم يحدث أن توقّفت في حياتي عن كتابة الشعر، لكني مقلّ عامة، أنتج ديوانا كل أربع أو خمس سنوات، وفترة التوقّف بين ديوان وآخر لا تعني التخلّي أو الهجر، بل تعني الاستعداد والتجهّز للجديد الذي أبحث عنه، فعلى الشاعر، في ظني، أن يقرأ أكثر مما يكتب، ويبحث أكثر مما يجد، ويظلّ يسأل ليرى ويستوعب أكثر».
حول دور الشعر الأجنبي في صوغ عالمه الشعري، يعتبر عيد إبراهيم أن ما من شاعر عربيّ يستطيع الكتابة من غير متابعة ما سبقه. فقراءة التراث وفهمه والوعي بمنجزه أساس لكلّ شاعر، لكن هذا الوعي لا يعني أن يقوم بعملية استنساخه من جديد بل هضمه ومحاولة تجاوزه بكلّ ما لنا من طاقة معرفية. هكذا لا يرى الشاعر لمفهوم القطيعة معنى، فأنت تكتب فوق طروس عديدة مما قرأت وفهمت، بل ووعيت، وكلّنا يبني فوق ما يبنيه الآخرون. لا أحد يبدأ من الصفر كأنه آدم الشعر. زادني الله شرفاً أن عرفت الشعر الأجنبيّ في لغته وترجمت الكثير منه، ولا أزال. إنه معرفة إضافية، فالترجمة قراءة معمّقة للنصّ، وأعترف بأنني أفدت الكثير من المنجز الشعريّ العالميّ، ما غيّر في شكل القصيدة عندي ومضمونها. فمن لا يفيد من هذه المنابع الثرّة؟ عندما تفتح قلبك للنوافذ يدخلك هواء جديد. الشاعر الذي يبني جدراناً لا تخترق يظلّ في محيط الماضي، غائباً عن المستقبل. أتابع ما يُكتب في أيّ مكان، صغيراً كان أو كبيراً، مشهوراً كان أو مغموراً. مسامّي كلّها مُفتّحة للجديد الطريف، وضدّ الماضي التليد».
القصيدة الحديثة
يكتب عيد إبراهيم قصيدة النثر التي يرى أنها لا تعتمد كثيراً اليوم على خبرات حياتية جبّارة مثلما كانت للشاعر القديم، إذ تتكفّل الميديا اليوم بالعديد مما كان يؤديه الشاعر قديماً. فعلى الشاعر المعاصر أن يقوم بـ»الهجرة إلى الداخل»، كي يرى ما لم يره أحد قبله، ولو كان أمراً بسيطاً مثل وصف منظر الماء متدفقاً من الحنفية، أو التطلّع في راحة اليد كأنك تراها للمرة الأولى، وترى الحبيبة مثلما يراها الخالق، لا المخلوق.
القصيدة، لعيد إبراهيم مثل المرآة، تعكس عدّة ذوات، بعدد قرائها، والمهم لديه أن ترى فيها شعراً، بشكل النثر أو العَروض. أما ماهية الشعر فهي تختلف، ربما من شاعر إلى شاعر، فلا يستطيع تقديم تعريف موحّد للشعر وإلاّ استطاع العشّاق تقديم تعريف موحّد للحبّ. الصمت الذي تحسه في لغة الشاعر، مع بقية العناصر، مردّه ربما أن لغة النثر لا تستدعي الخطابة أو المشفاهة أو القيم المتعارف عليها، بل يُفترض أن تكتب كأنك تكتب للمرة الأولى، أقول كأنك، كي نرى شكلا جديدا في مضمون جديد، في رؤية للعالم غير التي كان يرى بها الشاعر القديم أو حتى مستحدث القصيدةَ.
يعتقد عيد أن كلّ شاعر يقوم بدور في المجتمع، لكن هذا الدور ليس مباشراً، وقد دفعت «ثورات الربيع العربيّ» – وإن أخفقت في كثير من مراميها- الشاعر إلى أن تبديل قناعاته وتوسيع مداركه، والبحث عن جمهور أكبر كي يفيد من فنه وثقافته عدد أكبر، لكن المشكلة، في رأيه، تكمن في أن بعض المثقفين خانوا ضمائرهم وساروا مع النظم الجديدة بعد الثورات، والمعروف أن النظم هي الأسوأ بعد أيّ ثورة، إذ على المثقف أن يناهض المظالم ويسعى إلى إقامة العدل في الأرض ويقوّم مسيرة أيّ حكومة أو رئيس، مختتماً بقوله: «إن لم يفعل المثقف ذلك يظلّ الفساد قائماً والقتل جارياً والسجن على كلّ باب. على المثقف أن ينصت إلى آلام شعبه، إنما من غير أن يكتب بطبيعة مباشرة أيضا، فذلك شأن السياسيّ والمصلح الاجتماعيّ، بل أن يكتب عامةً عن مصلحة أكبر عدد من الناس، داعياً إلى اقتسام ثروات مجتمعه، لا أن يظل غير عابئ بشيء مما يدور حوله. المثقف في النهاية ضمير، فلو صلُح صلح المجتمع، ولو لم يفعل سار المجتمع إلى خراب مستعجل ونهاية مثل نهايات الهنود الحُمر».