عفواً عزيزي الضابط… أنا لستُ متسوّلاً!
محمد ح. الحاج
قبل شهرين، وصلنا إلى الجسر الفاصل بين المركزين، تجاوزنا عدداً من السيارات المتوقفة إلى يمين الطريق بانتظار الإذن بالدخول، أشار لنا الخفير بيده: سوريين… صحافة…! وأبرزنا زميلي وأنا البطاقات، أبلغ الضابط عبر اللاسلكي… سيارة سورية خصوصي، شخصين مع بطاقات صحافة لبنانية… جريدة «البناء». وجاءه الردّ: فليدخلوا.
في الساحة المخصّصة لوقوف السيارات ترجّلنا بعد ركن السيارة، وكالعادة قمنا بتصوير بطاقات التعريف الهويات قبل الدخول إلى قاعة الهجرة والجوازات وكان الضابط ذو النجمتين عند الباب، استقبلنا باسماً عند إبراز البطاقات قائلاً: أهلاً وسهلاً كم يوم بدك تضلً؟ قلت: 48 ساعة. نادى أحدهم يا… اعمل للأستاذ بطاقة زيارة عمل 72 ساعة… وأشار لي إلى الكونتوار… زميلي معه إقامة مجاملة، بعد إتمام المعاملة وعند خروجنا توجهت إلى الضابط بالشكر، كان بشوشاً وفي غاية التهذيب… أجاب: أهلاً وسهلاً واجبنا.
في رحلتنا الأخيرة، قبل أيام وعلى الجسر ذاته أشار الخفير وقد قرأ على زجاج السيارة… صحافة… جريدة «البناء» مع رقم الهاتف، ورأى البطاقات، أيضاً وكالعادة أنا وزميلي من مكتب حمص، أبلغ الضابط بوجودنا، ولما كنت بعيداً عنه لم أسمع الجواب… بل سمعت إيعاز الخفير: «وقّف على جنب»… في الأثناء عبرت عدة سيارات لبنانية دون توقف ما يشعرك بالتمييز في حين تقف السيارات السورية العامة صفاً طويلاً على الجسر، بعد قليل سمح لعدة سيارات كانت خلفنا بالدخول، إحداها بوساطة خفير من الأمن العام السوري وقفل راجعاً… ناديت الخفير لأنّ النزول من السيارة ممنوع، قلت: يا صديقي لدينا عمل في بيروت وقد نتأخر… قال خمس دقايق… وامتدّت خمسة وأربعين دقيقة.
أشار الخفير لنا بعبور الجسر، ذهب زميلي لتصوير «الهويات»، وسجلت أنا السيارة في مكتب الجمارك، وعند قدومنا إلى قاعة الأمن العام كان الضابط على الباب، قال: شو عنا اليوم؟ أجبته: كالعادة زيارة عمل 48 ساعة… مدّ يده وتناول البطاقة من يدي، قلبها ملياً، وقال: انتظرني وذهب إلى غرفة التحقيق ثم قفل راجعاً ليقول ما بقدر اسمحلك تدخل بهالبطاقة… قلت ولكنني أدخل بموجبها دائماً، كما أنني عضو مشارك في اتحاد الصحافيين، وعضو في المجلس الوطني السوري للإعلام. طلب البطاقات، أبرزت بطاقة الاتحاد المنتهية صلاحيتها ولم أستبدلها بعد، كما تقدّمت بكتاب المجلس الوطني للإعلام البديل عن البطاقة… لأنّ آلة طباعة البطاقات في المجلس معطلة، لم يأخذ بالكتاب، وقال: هذه بطاقة صحافي مشارك ومنتهية الصلاحية! وكأنها تنفي عني صفة الصحافة والإعلام ويبدو أنه لا يعلم الفارق بين العضو العامل والعضو المشارك، فالأول محترف الإعلام وهو موظف في وسيلة إعلامية، بينما الثاني إعلامي غير موظف ولا يستفيد من الصندوق التعاوني في الاتحاد. المفارقة ليست هنا بل في كونه يعرفني ودخلت قبلاً وهو موجود مرات عديدة لكن بوجود ضابط أعلى يضع نجمتين بينما هو يضع نجمة واحدة، التقدير في مثل هذه الحالة يعود للضابط المناوب ذاته إنْ لم يكن القانون هو الفيصل، أو التعليمات التنفيذية الملحقة، نظرة إلى بطاقة التعريف تفيد أنني تجاوزت السبعين وأنني لست أبحث عن عمل ولست بنازح، وهناك كتاب وبطاقة صالحتان لغاية 2016، وبموجب البطاقة استمريت في الدخول بعد صدور القانون الجديد الخاص بدخول السوريين والذي ألغى البطاقة الموحدة، متجاوزاً الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، وإذ أبدينا تفهّمنا لوضع البلد والإجراءات التي اتخذها للحدّ من النزوح بحيث لم يعد يستوعب، فإننا لا يمكن أن نتفهّم مضايقة الناس العاديين ومنهم شخصيات واختصاصات طبية وصيدلانية وعلمية وكبار تجار وصناعيين ومهنيين.. وهؤلاء لا يبحثون عن ملجأ أو عمل بل يتابعون مصالحهم في لبنان، أو يعبرون للسفر أو لقضاء بضعة أيام، أو للطبابة أو لغير ذلك من أمور وكلها محدودة المدة… وهؤلاء ينفقون ويقيمون في الفنادق ويستخدمون سيارات الأجرة أو يستأجرون سيارات… بمعنى آخر لا أحد من هؤلاء يشكل عبئاً على لبنان ولا اللبنانيين في رزقهم أو معيشتهم، على العكس هؤلاء يساهمون ولو بقدر ضئيل في الدخل السياحي.
عند هذا الاصرار قلت حسناً سأقفل راجعاً وأعتذر من زملائي في بيروت ومن زميلي الذي يرافقني في السيارة، ليس عندي مشلكة اسمح لي ببطاقاتي… قال: هل معك سيارة… مسجلة باسمك.. ومؤمّنة نظامياً؟ قلت مستغرباً: وهل هي المرة الأولى التي أدخل فيها، وهذا الدفتر بيدك صفحاته تشير إلى الدخول عشرات المرات ولم أتجاوز في مرة واحدة مدة الـ48 ساعة… قال أسمح لك بالدخول 24 ساعة بضمانة السيارة… تسوق!
شعرت بنوع من الإذلال، أدخل إلى البلد الذي ترعرعت فيه، ودرست فيه، ونصف عائلتي موزعة بين بيروت والبقاع، أدخل… هذه المرة بضمانة السيارة! تدخل زميلي قائلاً: يا حضرة الضابط ما بتكفي 24 ساعة، لظرف ما يمكن نتأخر كم ساعة، ممكن تتعطل السيارة… وصارت معنا قبل هالمرة… لكنه أصرّ.
قبلت قرار الضابط حتى لا أترك زميلي، وأنا حانق، وتساءلت ضمنياً هل الأمر خاضع لاجتهاد كلّ ضابط على حدة… مراكز دخول أخرى وبمجرد رؤية بطاقة الصحافة يستقبلك الضابط مرحباً ويسأل: هل تريد شهر أم خمسة عشر يوم، وعندما أقول بل 48 ساعة يضحك مستغرباً… ليش مستعجل… الجو عنا حلو وأهلاً وسهلاً بك، يدوّن المدة من 72 ساعة إلى خمسة أيام على ورقة مع توقيعه ويشير إلى عدد من النوافذ لمراجعة إحداها، حيث يتمّ تسجيل اسم الفندق ورقم هاتفي اللبناني.
خطر لي أن أعود إليه لأرمي البطاقة وأقفل راجعاً بعد إبلاغه أنني أحجز في فندق ولن أنام على الرصيف أو في حديقة عامة، وأنني لست متسوّلاً ولا يخطر لي أن أتوسل إليك لتسمح لي بدخول وطني… ولتعلم أنّ الأمن العام في الجهة المقابلة السوري لا يميّز بين سوري ولبناني ولا يطالب اللبنانيين بالانتظار كما فعلت أنت، ولتعلم أيضاً أنّ آلاف اللبنانيين يقيمون على الجانب الآخر من الحدود المصطنعة نشاركهم الرغيف والمدارس والطبابة بالمجان والمحروقات وكلّ شيء ولم نشعر بالفارق في أيّ يوم، ويكفيك أن تراقب السيارات اللبنانية القادمة من الشمال وماذا تحمل لتعلم أنّ المعاملة مختلفة تماماً… وليست بالمثل ولن تكون كذلك… قليلاً من الاحترام يا سيدي، فأنا كنت مثلك في يوم ما، واليوم متقاعد بعمر والدك… لا علاقة لإنسانيتي وطريقة المعاملة بحبك لهذه الصحيفة أو تلك، أو المحطة ألف أو باء…