مختصر مفيد متى يتلاقى الروس والأميركيون في حرب واحدة؟
منذ ظهورهما كقوّتين عظميين بعد الحرب العالمية الثانية، لم يحدث أن وقفت موسكو وواشنطن على ضفة واحدة في حرب، بل كانت كل حروبهما تتقصد الآخر بصورة غير مباشرة، وكان تموضعهما دائماً على الضفتين المتقابلتين، سواء كما حدث في حروب تخوضها جماعات مدعومة من الطرفين في وجه بعضها، كما هي حروب أميركا اللاتينية بين الأنظمة العسكرية والثورات المسلحة، من كوبا إلى نيكارغوا وسواهما، أو بتموضع إحداهما مباشرة في حرب وهي غالباً أميركا، ودعم الآخر وهي عموماً روسيا، لمناوئي الهيمنة الأميركية كحروب كوريا وفييتنام.
رغم التذاكي الأميركي في تخطيط كيفية تشجيع وتوجيه الهبّات الشعبية العربية التي عُرفت بـ«الربيع العربي» وصولاً للإمساك بها، وقيادتها، لم تلبث أن تحوّلت في سورية إلى حرب مكشوفة تتموضع فيها واشنطن ومعها كل حلفائها، من حلف الأطلسي وصولاً إلى «إسرائيل» والسعودية وتركيا وقطر، وانتهاءً بتنظيم «القاعدة»، بهدف السيطرة على سورية. ولم يتأخر الروس عن اكتشاف حجم التغيير في الجغرافيا السياسية الذي يريد الأميركيون تحقيقة عبر الفوز بسورية، ونوعية المعادلات الاستراتيجية التي سينشئونها، سواء بتكريس هيمنة الحلف التركي السعودي «الإسرائيلي» على الشرق الأوسط، أو بإسقاط قدرة إيران على إقامة قدر من التوازن فيه، وخصوصاً بإعادة توجيه ثنائي العثمانية الجديدة وتنظيم «القاعدة» شمالاً وشرقاً لإحكام الطوق على روسيا والصين، وتحقيق الحلم الإمبراطوري الذي فشلت حربا العراق وأفغانستان في تحقيقه، بعد نجاح حروب أوروبا في التسعينيات وإطلاق الاتحاد الأوروبي ببلوغ حدود روسيا الغربية.
تحوّلت الحرب على سورية في شقّ رئيس منها مع التموضع الروسي العسكري فيها، إلى حرب روسية أميركية، رغم تفادي المواجهة المباشرة، وتظهر اليوم بوادر تعاون روسي أميركي لا يمكن التهاون بدرجة جدّيتها، لتكون موسكو وواشنطن للمرة الثانية، بعد تعاونهما في الحرب العالمية الثانية ضد النازية، والذي تجسد بدخولهما برلين معاً كلّ من جهة، ونشوء نظام عالمي جديد يتقاسمان قيادته بقي قائماً من يومها حتى سقوط الاتحاد السوفياتي وبدء الحروب الإمبراطورية الأميركية للتفرّد بحكم العالم، والتي شكّلت الحرب السورية أخطر وأهم حلقاتها المفصلية، بحيث بات ما ستنتهي عليه هذه الحرب كافياً لرسم خريطة النظامين العالمي والإقليمي الجديدين.
لم يذهب الأميركيون إلى الحرب على النازية دفاعاً عن أميركا، وقد كان جلّ ما أصابها العمليات اليابانية التي استهدفت بيرل هاربر، والتي كان يمكن التعامل معها موضعياً بالنسبة لبلد مترامي الأطراف كأميركا، محصّن خلف المحيطات يصعب التفكير بغزوه، بقدر ما كانت ضربات الكاميكاز الياباني لبيرل هاربر سبب واشنطن لاتخاذ قرار الدخول في الحرب، وذريعتها لغزو العالم باتجاهين يهمانها، هما أوروبا وشرق آسيا، والأهم تفادي التوسّع السوفياتي تحت شعار الحرب على النازية، وملاقاة حركات المقاومة الأوروبية لها بثوب المخلّص. وتُجمع كل الدراسات التاريخية للحرب العالمية الثانية على حقيقة أن التشارك الأميركي مع روسيا في تلك الحرب كان تشارك المنافس لا الحليف.
تقدّم التطورات التي حملتها الحرب الأميركية على سورية ما يكفي للقول إن أوروبا تحت خطر شبيه بالذي واجهته مع صعود النازية. فالتطرّف الإسلامي الذي يتغذّى منه الإرهاب قابل للنمو والتصاعد في أوروبا تحت وطأة نمو يمين متطرّف معادٍ للمهاجرين، وعنصريّ في التعامل مع أصحاب البشرة السمراء كلهم، وأيّ استقراء بسيط سيوصل إلى حقيقة أن أوروبا تقدّم أفضل بيئة حاضنة لهذا التطرّف، وأن تنظيم «القاعدة» بفروعه المتعددة يدرك ذلك ويشتغل عليه جيداً. ومن جهة ثانية تبدو موسكو متحفزة وجاهزة، ولا تستطيع الانتظار طويلاً حتى تجهز أميركا للتعاون، وهي تدرك أن عين أميركا كانت ولا تزال على كيفية إسقاط حليف روسيا الأول في الشرق الأوسط الذي يمثله الرئيس السوري، فإما أن تقدم واشنطن وتحجز مقعداً في التقدّم نحو برلين التي تمثلها الرقة اليوم، أو تمنح موسكو شرف قيادة العالم منفردة ومعها حاجة أوروبا إلى مواجهة هذا الخطر، تماماً كما كان على واشنطن أن تختار مع الزحف السوفياتي المتسارع نحو برلين في القرن الماضي، واختارت النزول في النورماندي، لملاقتها، ومنعها من التفرّد، وهي تعلم أن الثمن الذي تحدّده الجغرافيا التي جعلت فرنسا المفصل الحاسم في الحرب، سيكون تثبيت درع الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي لم يكن يحب الأميركيين ولا يحبّونه، بمثل ما لا يحبّهم الرئيس السوري ولا يحبّونه.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.