الطفل عبد الله… ضحية اعتدال الإرهاب
عندما نرى بأعيننا مشاهد أقسى من أن تستوعبها العقول وأن تتحمّلها القلوب، فإننا نحتاج إلى ذبح الكلمات وتشريح جسدها لاستخراج العبارات التي تناسب حجم المُصاب وتوازيه وقد لا نستطيع.
في ذروة احتدام المعارك تدمَّر البيوت والمباني وقد ينهار اقتصاد دولة وتخسر قيمة عملتها، ويعاني شعبها من الفقر والجوع. قد تُشوَّه حضارة ونبكي تاريخاً فنقول من أعماق جراحنا: لا مشكلة، هذه ضريبة الحروب. لا بدّ أن يأتي يوم وننفض غبار العناء ونُصلح ما أفسدته الحروب.
ولكن، عندما تُغتال إنسانيتنا فكيف لنا أن نعود؟ وكيف لنا أن ننهض؟ ونبني من الأنقاض المتكومة إنسانية جديدة في حضرة هذا التحوّل والانحدار الأخلاقي الخطير؟
مَن منّا لم يشعر بالخطيئة؟ مَن منّا لم يشعر بأنه مشارك في جريمة ذبح الطفل عبد الله عيسى، التي خجل أن يفعلها التتار والمغول.
عبد الله ضحية مثل أطفال غيره سبقوه، في حلب واللاذقية. في عدرا العمالية والزارة الأبية.
العالم كله يحتضر والدروب موحلة بالدماء. تغلغل الموت في أنفاسنا، نتنقل بحسرة بين القبور، ونتخيّل أننا نعيش في القصور.
همس عبد الله أثناء رحيله: تطير حمامات السلام هاربة أمام عينَيّ التائهتين يا أمّي. فارغة الدنيا من حولي، أتلوّى بجسدي الغضّ وأطرافي الذابلة. أناجي الله حتى لا أشعر بقساوة السكين وهي تحزّ رقبتي. رسمت أحلامي ولم أكن أعلم أنني سأموت باكراً. ولم أكن أتوقع يوماً أن أموت ذبحاً. أو تأتي لحظة أبيع فيها جميع أحلامي وأتوسل بحرقة لتحقيق أمنية صغيرة، هي الموت بطلق ناريّ!
لقد رحلت من الدنيا ذبحاً، أشهق شهقاتي الأخيرة لا لأنها مشيئة الله الذي نادوه أولئك الوحوش، بل لأنّني ضحية صراع بدأ ولن ينتهي. ضحية منظّمات خرساء صمّاء غربية المنشأ صهيونة الهوى. قاسية تلك اللحظات يا أمّي، ضحكت في قلبي ساخراً رغم مرارتها. في تلك الأثناء فقط نسيت مرضي، نسيت وجع جسدي، وتجاهلت أن بلادي مغتصَبة. فقد استيقظ في أعماقي وجع أكبر، لأنّ طفولتي البريئة هي التي تُقتَل، وإنسانيتي هي التي تُغتال بتلك السكّين لا جسدي. أرجوكم لا تحزنوا عليّ ولا تبكوني، لا تكتبوا قصائد الشعر أو تغنّوا تراتيل الحزن، ولا تنتظروا دقائق الصمت والإدانة، لأن الإدانة من القتلى إجرام وذنب.
ففي لحظات انتظار موتي شعرت بالغربة، بالعزلة، لا أسمع إلّا صدى صيحات التكبير .تخيّلت أنّ أمّي تدنو منّي. كانت عيناي شاحبتين ووجهي يرتعش، لم أستطع رؤيتها، ولكنّني شممت رائحة يديها تمرّرها برفق وحنان على عنقي، فصار الموت بين يديها عقيماً. لا ولادة لوجع ولا حتى صرخة ألم، فقط وجدت نفسي في حضرة أطفال كثر تعلو أصواتهم مزدحمة تغصّ حروفهم بلهجة متلعثمة يقولون تفجيراً، ركاماً، حرقاً، اغتصاباً.
نظروا إليّ فجأة، فقلت هامساً: أمّا أنا فضحية اعتدال الإرهاب، وتكبير من شياطين تقنّعوا بالدين وهم كفّار، تقنّعوا بالفروسية وهم جبناء، تبجّحوا بالحرّية وهم مجرّد عبيد وخدم.
أرجوكم لا تبكوني ولا تنوحوا، أنقذوا ما تبقى من إنسانيتكم، أنقذوا وطنكم المريض المذبوح بصيحات التكبير وسكاكين الغدر!
سناء أسعد