انتفاضة فيرغسون والمواجهة في مزرعة بندي غليان أميركي تحت الاستقرار المخادع

تداعيات الاحتجاجات الشعبية في فيرغسون، بولاية ميزوري، وقيام «داعش» بجزّ عنق صحافي أميركي كانا من أبرز اهتمامات وسائل الإعلام ونخب مراكز الأبحاث الاميركية.

سيتناول قسم التحليل حيثيات ودوافع ومستقبل الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت من فيرغسون، لتعرّي ورقة التوت للعنصرية المتجذرة في المنظومة السياسية الأميركية وإلقاء نظرة فاحصة على البعد «الإسرائيلي» في تطبيق شرطة فيرغسون الأساليب الوحشية ضدّ المتظاهرين السلميّين، مما أعاد إلى أذهان المراقبين حقيقة ما يجري من قمع واضطهاد ضدّ عرب فلسطين من قبل سلطات الاحتلال «الاسرائيلي.» كما برز عمق العلاقة الأمنية بين أجهزة الشرطة الأميركية و»الإسرائيلية» التي أشرفت على تدريب وتوجيه عدد من كبار ضباط الشرطة، بمن فيهم مسؤولو شرطة فيرغسون.» وسيستعرض قسم التحليل أيضاً ارتفاع معدلات الإحباط وعدم رضى المواطنين الأميركيين من الحكومة وتطوّر مواجهاتهم مع السلطات المركزية مما ينذر بحالة عصيان شاملة في المستقبل المرئي.

ماذا ينتظر أميركا في المنطقة؟

استعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية البيئة السياسية الراهنة في العالم العربي بعد كلّ ما عصف بها من أحداث جسام، منبّهاً صنّاع القرار الاميركي إلى أنّ «الولايات المتحدة تواجه مستويات متصاعدة من عدم الاستقرار في طول وعرض المشرق، مما سيترك بصماته على كلّ الجوانب الرئيسة في المنافسة الأميركية مع ايران، تشمل عموم الشرق الاوسط وشمالي افريقيا.» كما سعى المركز إلى تحديد أدق لمظاهر وميادين المنافسة، والقوى المنخرطة والقيود المحيطة بالجانبين، في الأزمنة السابقة والراهنة والمستقبلية.

قطاع غزة

استهداف المقاومة الفلسطينية لمنصة استكشاف واستخراج الغاز الطبيعي في مياه قطاع غزة أثار قلق معهد واشنطن نظراً لأنّ حقل الغاز «تامار، الذي يبعد نحو 50 ميلاً عن شواطئ حيفا، باستطاعته توفير الطاقة للاحتياجات المتصاعدة لشبكة الكهرباء إذ مع حلول عام 2015 تقدّر نسبة ارتفاع الحاجة الى 50 » عن معدلاتها الراهنة. اما الصواريخ والقذائف التي أطلقتها المقاومة باتجاه المنصة فهي «غير موجهة في مجملها وتخلو من رأس موجه بالرادار او رؤوس حرارية، والتي إنْ لم يتمّ إطلاقها بصليات مكثفة، تصبح مهمة إصابة المنصة ومنشآتها بالغة الصعوبة.» ومضى بالقول: لو توفرت تلك التقنيات للمقاومة فإنّ «مجرّد تهديدها بإشعال الحرائق يرفع معدلات إغلاق عمليات الإنتاج لدوافع السلامة.»

ركز معهد كارنيغي الضوء على «الدور المعيق لمصر في إدارة المفاوضات… واضطرار المفاوض المصري في نهاية الأمر إلى التعامل مباشرة مع قادة حماس بغية التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وسعيه إلى التخفيف من تلك الحقيقة المزعجة.» واوضح أنّ أسلوب مصر «استحضر دور الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما درج عليه الأمر خلال حقبة مبارك، ولمهادنة حركة الجهاد الاسلامي.» وأضاف انّ السلطة السياسية الجديدة في مصر «اثبتت انها لا تقف عائقاً في وجه إنشاء تحالفات مع الإسلاميين المتشدّدين اذ ينحصر صراعها الراهن مع تلك القوى الحليفة لتنظيم الإخوان المسلمين.»

العراق

حثّ معهد كارنيغي الولايات المتحدة على «أن توضح للعراقيين ما بوسعها تقديمه لهم من دعم عسكري حالما يتمّ التحقق من عزمهم وقدرتهم على إدارة الصراع كفريق موحد ضدّ المتشدّدين السنة.» واوضح انّ الإدارة الاميركية «كانت حريصة للحظة على تحديد مطالبها من العراقيين وما يتعيّن عليهم القيام به، لكن الغموض اكتنف تحديد الجانب الاميركي المجالات التي يستطيع القيام بها في المقابل. الأمر الذي قوّض النفوذ الاميركي في مسالك السياسة في بغداد.» واضاف: انّ العراقيين قلقون من عدم معاملة الولايات المتحدة لهم بالمثل مما تقدمه من معدات وخبرات لاقليم كردستان».

أصدر معهد هاريتاج دراسة خاصة بالعراق تناول فيها أربع خيارات متاحة أمام الولايات المتحدة للعمل على تطبيقها: «ضرورة الإبقاء على إقليم كردستان منخرطاً في القتال، إذ يشكل الحصن المنيع الذي لا غنى عنه في وجه التمدّد الإسلامي… العراقيون بحاجة الى حكومة مستقرّة في بغداد… المقدّمة الضرورية لإعادة انخراط قوات الأمن العراقية مرة أخرى في القتال ضرورة الحفاظ على استقرار الأردن الذي يمثل حجر الزاوية لاستقرار المنطقة عدم الاستكانة أمام إيران، وينبغي على الولايات المتحدة إدامة العمل للحدّ من نفوذ إيران في الإقليم وفي العراق بشكل خاص.»

اعتبر معهد ويلسون انّ معركة استعادة السيطرة على سدّ الموصل تعدّ مركزية اذ انّ «الدولة الاسلامية مهتمّة باستخدام المياه كعامل ضغط بشكل أساسي او كرديف من مكوّنات مشروعها لإنشاء دولة الخلافة بدلاً من استخدامه كسلاح تكتيكي.» وأضاف المعهد انّ قادة «داعش» طمأنوا الموظفين في المنشأة بتلقي رواتبهم «شريطة عدم توقف العمل واستمرار توليد الكهرباء للمنطقة تحت سيطرته،» وينبغي إدراك تلك المعادلة جيداً «من أجل إعداد ردّ متوقع للأزمات المائية… اذ توصيفها بأنها حرب مائية يضعف عامل المياه المركب واختزاله بعنصر أوحد. بيد أنّ أهمية المياه تتقاطع مع كلّ مقوّمات المجتمع فضلاً عن أهميتها في صنع السلام وتعزيز الشرعية الحكومية.»

نبّه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الولايات المتحدة الى إدراك حدود قدراتها «وليس باستطاعتها التركيز على القتال ببساطة… من باب أنّ الحلول العسكرية غير مجدية في الحروب الأهلية والعصابات.» واوضح انّ العراق «يتعيّن عليه إما إنجاز إعادة الإعمار كدولة او مواجهة حقيقة ان أنجح جهد عسكري سينال الفشل.»

إيران

أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية دراسة جدّد فيها القلق الأميركي من «التهديد الصاروخي الإيراني لمضيق هرمز والخليج العربي.» كما تناولت الدراسة «سبل تداخل تلك التهديدات لحركة الملاحة البحرية مع نمو القدرات الصاروخية والباليستية» وتطبيقاتها في جولة حرب غير متوازية «في ظلّ احتمال إغلاق الخليج.»

التحليل:

ظاهرة عسكرة أجهزة الشرطة

«تجييش اجهزة الشرطة،» او عسكرتها كما اطلق عليها، لم يأتِ عابراً ومن دون تخطيط. بل كانت الظاهرة ثمرة للعدوان الأميركي واحتلال العراق، 2003، تجسّدت عبر إقرار الكونغرس في دوراته المتعاقبة تدفق «ميزانيات غير محدّدة السقف لشؤون الأمن الداخلي،» مباشرة عقب أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، فضلاً عن حثه البنتاغون «للتبرّع» بفائض الأجهزة والمعدات والذخائر، التي بقيت في حوزته بعد انسحابه المتتالي من أفغانستان والعراق، لأجهزة الشرطة وخاصة في المدن الكبرى، بصرف النظر انْ «توفرت الحاجة لذلك ام لا.» رافق المعدات العسكرية الحديثة المتاحة لأجهزة الشرطة غياب مراقبة حقيقية لتوغل الأجهزة الأمنية مما زاد من معدّلات «اعتداء القوات الخاصة للشرطة طواقم سوات بمعدل 137 حادث في اليوم… فريق من قوات الاقتحام يعتدي على بيت آمن ويغرق قاطنيه والأحياء المحيطة بالإرهاب،» ثبت في عديد من المناسبات انه ارتكب فعلته ضدّ عنوان وهدف خاطئين.

للدلالة على الميزانيات الهائلة المرصودة، اوضحت صحيفة «لوس انجليس تايمز،» 28 آب 2011، انّ «الاجهزة الأمنية المحلية والفيدرالية تنفق ما معدله 75 مليار دولار سنوياً على شؤون الأمن الداخلي.» منظمة «الاتحاد الاميركي للدفاع عن الحريات المدنية» أصدرت تقريراً لها في هذا الشأن في شهر حزيران 2014، تحذر فيه من «تجييش» الأجهزة الأمنية اذ «أضحت الولايات المتحدة في هذه الأيام لوحة مفرطة في العسكرة، عبر رصد برامج إنفاق على الصعيد الرسمي من شأنها إيجاد الحوافز لأجهزة الشرطة المحلية وتلك التابعة للولايات لاستخدام اسلحة هجومية غير مبرّرة وتكتيكات استنبطت للتطبيق في ميدان المعارك العسكرية.»

نشر عدد من الصحف الاميركية نيويورك تايمز وكريستيان ساينس مونيتور مؤخراً تقارير متتالية نقلاً عن إحصائيات وزارة الدفاع، البنتاغون، توضح فيها «بعض» الأسلحة التي تلقتها أجهزة الشرطة منذ عام 2006، التي بلغت «435 عربة مدرّعة، 533 طائرة، 93,763 بندقية هجومية، و432 شاحنة مدرعة مقاومة للألغام… مركبات برية وبحرية وطائرات… أسلحة ومعدات للرؤية الليلية وأجهزة الكمبيوتر، البزات الواقية من الرصاص والأقنعة الواقية من الغاز، وبضع مئات من معدات كواتم الصوت، و200,000 طلقة رصاص من عيارات مختلفة.» وذلك في أعقاب مصادقة الكونغرس على برنامج لنقل المعدات العسكرية الثقيلة من ثكنات الجيش الى أجهزة الشرطة، بلغت قيمتها نحو 4.3 مليار دولار. في الجانب الاقتصادي، يقدر الخبراء انّ «الشركات والمصانع والمورّدين والمنتفعين» من تلك «الهبة» سيرتفع معدل حجم سوق تبادلها التجاري ليبلغ نحو 31 مليار دولار مع نهاية العام الجاري.

الجهاز الفيدرالي المختص بالإشراف سنوياً على تسليح أجهزة الشرطة المدنية الاميركية، مكتب دعم أجهزة تطبيق القانون ليسو، أوضح في نشرته نهاية عام 2011 حجم المعدات التي نقلها من وزارة الدفاع الى أجهزة الشرطة بالقول: «مثّل عام 2011 سنة قياسية لمعدّل نقل ملكية المعدات من مخزون القوات العسكرية الأميركية الى أجهزة الشرطة المنشرة في البلاد،» تجاوزت قيمتها 500 مليون دولار للعام المذكور.

ظاهرة العسكرة ليست وليدة أجواء ايلول 2001، بل هي نتاج هاجس الدولة بكافة أجهزتها «لبسط الأمن والنظام» التي ولّدتها المظاهرات والاحتجاجات الشعبية لنيل المساواة والحقوق المدنية والقضاء على الممارسات العنصرية في عقد الستينيات من القرن الماضي واتخذت عناوين متعدّدة منذئذ «الحرب على المخدرات،» و «مكافحة الفقر» إبان عهد الرئيس الاسبق رونالد ريغان التي لم تسفر إلا عن زيادة معدلات الفقر وتوسيع الهوة الاجتماعية بين شريحة الأثرياء والمحرومين. المحصلة العامة أدّت الى عسكرة العقلية الأميركية وتوجيه كافة أسلحتها وممارساتها «ضدّ الاقليات والمناطق الفقيرة بصورة لا تتناسب مع حجمها الاجتماعي» وابعاد إرهاصاتها واحتجاجاتها عن التداول العام.

وأوجز الصحافي الشهير، غلين غرينوولد، الظاهرة الأمنية الاميركية بالقول إنّ «شبكة التجسّس والأمن الداخلي الهائلة، والحواجز الاسمنتية وأجهزة التدقيق في الهوية بالغة التطور أضحت أمراً واقعاً وباقية في حياتنا اليومية… على غرار المجمع العسكري الصناعي الذي تبلور الى ظاهرة ثابتة وقوية في المشهد الاميركي…»

شراكة وثيقة بين أجهزة الأمن الاميركية و»اسرائيل»

تمّ الكشف مؤخراً عن العلاقة العملية الوثيقة بين جهاز الشرطة في مدينة فيرغسون و»اسرائيل» التي استضافت رئيس قسم شرطة المدينة، تيموثي فلينتش، لحضور دورة «لمكافحة الارهاب… واستيعاب الأساليب القاسية التي تطبّقها أجهزة الشرطة هناك،» وقام الصحافي الشهير غلين غرينووالد بنشر نص الدعوة الموجهة بتاريخ 25 آذار 2011.

الترابط بين أساليب بالغة القسوة لشرطة مدينة فيرغسون وممارسات جيش الاحتلال الصهيوني لم تغب عن بال الأهالي والمراقبين وأصحاب الضمائر الحية، الذين وصفوها بأنها «تعيد الى الذاكرة مشاهد ما يحدث في غزة،» اي انّ أجهزة الشرطة «تفكر وتتصرّف وترتدي زيّ جيشٍ غازٍ محتلّ مدجّج بالسلاح» يواجه مواطنين عزلاً خرجوا للتظاهر سلمياً احتجاجاً على أوضاعهم الاقتصادية المزرية، بالدرجة الأولى، وعلى تهميشهم اجتماعياً. وأشاد العديد منهم على مواقع التواصل الاجتماعي بإرشادات الفلسطينيين في قطاع غزة يشاركونهم خبرتهم في كيفية التغلّب على عبوات القنابل المسيلة للدموع.

وجاء في الوثائق انّ جهازي الشرطة في مدينة سانت لويس الكبرى العاصمة تلقيا تدريباتهما من قبل «القوى الأمنية الاسرائيلية،» واللذين تصدّت قواتهما للمتظاهرين السلميين منذ البداية بقسوة وبشاعة حفزت المراقبين على تسليط الأضواء على البعد «الاسرائيلي» في عسكرة الأجهزة الأمنية الأميركية، فضلاً عن اعتداءات شرطة ميزوري على أطقم الصحافيين من دون مبرّر كما يجري معهم في فلسطين المحتلة.

في التفاصيل ايضاً، رعى «المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي – جينسا،» وهو منظمة اميركية، سلسلة دورات تدريبية لأجهزة الشرطة وإرسال أطقمها الى «إسرائيل» للتدرّب، كان أحدهم مساعد رئيس جهاز الشرطة في فيرغسون، جوزيف موكوا، في شباط 2008، والذي اعتلى منصب رئيس الجهاز في مدينة سانت لويس لاحقاً قبل اضطراره للاستقالة بعد الكشف عن تورّط جهازه وقرينته في استخدام السيارات المصادرة لأغراضهم الشخصية.

وأوضحت نشرة صادرة عن «المعهد اليهودي» المذكور طبيعة برامج التدريب التي بدأت منذ عام 2002 «شارك فيها نحو 100 من رجال الشرطة،» قائلة: «راقب الأميركيون الأساليب والتقنيات التي تستخدمها قوات الشرطة الإسرائيلية في الحيلولة من دون وقوع عمليات انتحارية والتفاعل معها ومع أنماط أخرى من الإرهاب تضمّنت سبل إبطال مفاعيل المتفجرات، الطبّ الشرعي، السيطرة على الحشود الجماهيرية، وتنسيق الخطاب مع الأجهزة الإعلامية وعموم الشعب.»

ويمتدّ اخطبوط الاختراق «الاسرائيلي» للأجهزة الأمنية الأميركية ليشمل «عصبة مكافحة التشهير اليهودية،» اذ أوضحت انّ رئيس جهاز شرطة مدينة سانت لويس سالف الذكر، تيموثي فلينتش، استجاب لدعوة العصبة والمشاركة في «الندوة القومية لمكافحة الإرهاب» التي امتدّت طيلة أسبوع كامل «حضره عدة رؤساء لأجهزة الشرطة الأميركية للتعرّف عملياً على التكتيكات والاستراتيجيات الإسرائيلية مباشرة من قادة كبار في جهاز الشرطة الاسرائيلية، وخبراء آخرين في أجهزة الاستخبارات والأمن الاسرائيلية، وجيش الدفاع الاسرائيلي» ايضاً، حسبما أفاد موقع العصبة الالكتروني. إضافة لما تقدم، «يدعى» ضباط عسكريون «اسرائيليون» لتقديم المساعدة والمشورة لأجهزة الأمن في المطارات ومراكز التسوّق الأميركية.

بعد الكشف عن التكتيكات «الاسرائيلية» التي اعتمدها جهاز شرطة مدينة سانت لويس، اصدر حاكم الولاية، جاي نيكسون، أوامره بسحب المسؤولية من الشرطة وإيكالها لشرطة الطرقات السريعة التي تتبع امرته مباشرة.

عضو الكونغرس الجمهوري المشاكس عن ولاية ميتشيغان، جستين أماش، علق على الممارسات القمعية «الاسرائيلية» في فيرغسون قائلاً: «المشاهد والتقارير الواردة من فيرغسون مرعبة. هل هي ساحة حرب ام مدينة اميركية؟ الحكومة المركزية تصعّد وتيرة التوترات القائمة باستخدامها معدات وتكتيكات عسكرية.» 13 آب 2014 . كما اوضحت «مؤسسة حرية الصحافة» الرصينة انّ الأساليب العسكرية المطبّقة «لا تستهدف المتظاهرين فحسب، بل اولئك الذين ينقلون الصورة إعلامياً ايضا.»

السؤال البديهي الذي يتبادر الى الذهن هو كيف استطاعت الأجهزة الامنية «الاسرائيلية» اختراق وممارسة نفوذها على المؤسسة الأمنية الاميركية.

بداية، التنسيق بين الطرفين لم يكن وليد اللحظة، بيد انّ المهام المضاعفة المترتبة على اجهزة الشرطة عقب هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 شكلت حافزاً للجانب الاميركي التوجه نحو دول أخرى ومنها «اسرائيل» لاكتساب مهارات في «مكافحة الإرهاب.» واستغلّ «المعهد اليهودي جينسا» و»عصبة مكافحة التشهير» هاجس الاميركيين للأمن وفرصة لتودّدهما لدى الأجهزة الأمنية الأميركية المختلفة، ووفرتا رحلات مجانية «لزيارة اسرائيل» لشريحة كبار الضباط في تلك الاجهزة، فضلاً عن عقد مؤتمرات ذات طابع أمني في الولايات المتحدة تتحمّلان كامل تكلفتها من سفر وإقامة وتعويضات.

وتدريجياً جرى نسخ الطبائع «الاسرائيلية» من قبل المدعوّين، لا سيما قاعدة تمييز وفصل قوات الشرطة عن محيطها السكاني وعدم انتمائها له، والتصرّف وفق ما تتطلبه قوة احتلال من إفراط في القسوة لتوفير الهدوء بصرف النظر عن الكلفة المرافقة. تعزز هذا الفهم الملتوي لدى أجهزة الشرطة في مدن وأحياء تعجّ بالأقليات والأفارقة الأميركيين، مثل مدينة فيرغسون، التي تقطنها أغلبية من السود بينما جهاز الشرطة غالبيته العظمى من البيض.

المنظمات الأهلية ولجان الحقوق المدنية رصدت منذ زمن ارتفاع معدلات قسوة ووحشية قوى الشرطة في تعاملها مع الفئات والأحداث المختلفة، فضلاً عن تنامي مشاعر عدم ثقة المواطنين بأجهزة الشرطة والأمن، مما يجسّد «الأساليب الاسرائيلية العدائية التي تدرّبوا عليها. وجاء في أحدث استطلاع للرأي، أجري في الفترة من 11 الى 14 آب الجاري، جاءت النتيجة بنسبة 43 تدين ارتفاع معدلات استخدام قوى الشرطة للاسلحة الفتاكة، مقابل معارضة 32 .

تفسّخ نسيج المجتمع الاميركي

السمعة المشوّهة لأجهزة الشرطة ليست الا واحدة من جملة ازمات يعاني منها المجتمع الاميركي، لتنضمّ الى مشاعر القلق وعدم الثقة من أداء الحكومة الاميركية بأكملها. وأوضح استطلاع للرأي أجرته شبكة سي ان ان للتلفزة، مطلع الشهر الجاري، انّ نسبة لا تتعدّى 13 من الأميركيين يضعون ثقتهم بالحكومة المركزية، وهي أدنى نسبة مسجلة منذ نصف قرن من بدء الاهتمام بذلك البعد الشعبي. وأضافت نتائج الاستطلاع ان نحو 10 من الاميركيين لا يثقون مطلقاً بالحكومة، وهي أعلى نسبة إلى الآن، بينما عبّر نحو 76 من المستطلعة آراؤهم عن بعض الارتياح ومشاعر الثقة النسبية في بعض الأحيان، والتي جاءت في المرتبة الثانية منذ بدء التوثيق.

ادرك الرئيس أوباما تدهور الأوضاع الاقتصادية وتجلّياتها على مجمل السياسة الاميركية، وتراجع تحقيق «الحلم الاميركي» في تحقيق الازدهار والنمو كما أطلق عليه. وقال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، منتصف شهر تموز 2013، ان «التدهور مستمرّ منذ نحو 20 او 30 عاماً، وقبل وقوع الأزمة المالية» عام 2008. واضاف ان «اتساع الهوة وعدم مساواة الدخل فضلاً عن التداعيات التي خلفتها الازمة المالية قد أسهمت جميعها في تهتّك النسيج الاجتماعي وتقويض حلم الاميركيين بالفرص الممنوحة.»

المجتمع الاميركي منهك بفعل ثقل هموم الحياة اليومية، وتزداد معدلات الاستقطاب والتطرف، لا سيما «في وجهات النظر السياسية والمعتقدات الدينية.» بل قفز عامل تراجع الدخل الى مرتبة أعلى من العامل العرقي في التجمعات التي تمارس الفصل العنصري، كما هو الحال في معظم الولايات الجنوبية.

اضافة لما تقدم، لا يزال المجتمع يعاني من ارتفاع معدلات البطالة، وبطء الأداء الاقتصادي، وتقلّص الطبقة الوسطى، وتعاظم مشاعر المواطنين بأنّ بلادهم «تديرها حفنة ضئيلة من النخب السياسية والاقتصادية.» اما الفصل العنصري وسوء معاملة السود من قبل أجهزة الشرطة المختلفة فحدّث ولا حرج. اذ جاء في تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2012، جرى على امتداد سبع سنوات، انّ معدل قتل مواطن أسود البشرة على يد رجل شرطة ابيض بلغ مرتين في الأسبوع.

جدير بالذكر انّ التقارير الصادرة عن هيئات حكومية ومنظمات شبه رسمية ينبغي النظر اليها بحذر شديد لتحيّزها وتغاضيها عن التصريح والإلمام بكافة جوانب الحدث، لا سيما «في عدد الضحايا السود العزل من السلاح.» وجاء في تقرير نشرته اسبوعية «مذر جونز،» 15 آب 2014، شككت فيه بكافة التقارير الرسمية قائلة: «لسنا على يقين من قيام اي هيئة حكومية بتقصّي حوادث اطلاق الشرطة النار والتي تؤدّي إلى مقتل المدنيين العزل بصورة منتظمة وشاملة.» وجاء في دراسة صادرة عن منظمة حقوقية للسود بتاريخ 13 نيسان 2014، «حركة مالكولم اكس الشعبية،» ان معدل مقتل شاب/ة من السود على يد رجال الشرطة من البيض بلغ ضحية واحدة كل 28 ساعة، استناداً الى احصائيات عام 2012 الذي شهد مقتل 313 مواطن اسود.

فيرغسون ومزرعة بندي في نيفادا

الغالبية العظمى من المتظاهرين في مدينة فيرغسون هم من السود الأفارقة الاميركيين، يميلون إلى التيارات السياسية الليبرالية بينما مؤيدو المزارع بندي، نيسان 2014، غالبيتهم الساحقة من البيض ينتمون إلى التيارات السياسية المحافظة والمتشددة باستثناء الحارس الشخصي الاسود لبندي. في كلتا الحالتين، ارتدى رجال الشرطة بزاتهم العسكرية القتالية وامتشقوا الأسلحة المعدّة لقتال الجيوش.

يحفل التاريخ بأمثلة وقوع حدث ما يشعل النار في الهشيم، يطلق ثورة اجتماعية في بعض الأحيان. في فيرغسون، تضامن عدد من التيارات السياسية الليبرالية واليسارية مع المحتجين وشاركوهم «صحوتهم» ضد السلطة بينما مؤيدو بندي جلهم جاء من صفوف الميليشيات اليمينية، وهم الذين يتقاسمون العداء الفطري للسلطة المركزية وكانوا على أهبة الاستعداد للدخول في مواجهة عنيفة مع الأجهزة الأمنية الفيدرالية.

تنامي مشاعر عدم الثقة من الحكومة المركزية، بكافة تجلياتها، وازدياد وتيرة المواجهات قد تدخل الاحتجاجات في دوامة عنف يصعب السيطرة عليها خاصة إذا حظيت بامتداد ودعم شعبي أوسع، مما ينذر بإمكانية ان تجد السلطات نفسها في مواجهة اضطرابات مدنية رئيسة في المستقبل المنظور. لا يستطيع احد التنبّؤ بزمن ومكان اشتعال فتيل المواجهة او القوى المنخرطة، بيد أنه لا ينبغي التغاضي عن الحجم الواسع للمتضرّرين من السلطة المركزية، عند الأخذ بعين الاعتبار التمثيل العرقي الواسع والامتداد الجغرافي وتبلور الوعي السياسي لدى فئات شعبية واسعة.

تسارع الاضطرابات في فيرغسون معطوفة على مشاركة قوى شعبية كبيرة من خارج المنطقة الجغرافية أذهل السلطات المركزية التي بذلت كلّ ما بوسعها لاحتواء الأزمة وإعادتها الى المربع المحلي، وحققت نجاحاً آنياً في هذا الشأن. التنازلات الشكلية التي قدمتها، دور اكبر للسلطة المركزية في إجراءات التحقيق والتلميح الى دخولها طرفاً في الادّعاء القضائي، حالت دون تكرار المشهد في مدن ومراكز سكانية كبيرة تقطنها أعداد معتبَرة من الأفارقة الاميركيين: فيلادلفيا، شيكاغو، بلتيمور، لوس انجليس، ونيويورك. ادركت السلطة قبل خصومها انها لو تركت الأمور على عواهنها فإنّ رقعة الاحتجاجات ستشتعل سريعاً كالنار في الهشيم يصعب السيطرة عليها او احتوائها.

القوى المهمّشة والأقليات المتضرّرة قد تلجأ للمشاركة في الاحتجاجات التي تجد ارضيتها الخصبة في طيف واسع من القوى السياسية والعرقية، لا سيما بعد توغل التيارات الرسمية اليمينية والليبرالية في اقصاء الاقليات و»المهاجرين غير الشرعيين» من دون وازع، واطلاقها العنان للقوى العنصرية والميليشيات اليمينية اخذ زمام المبادرة ضد القوى الاخرى. حينها، سيلجأ الرئيس اوباما الى تعبئة شاملة لقوى الحرس الوطني المختلفة «لمساعدة» الاجهزة الأمنية المختلفة التي شهدت فيرغسون اولى تجلياتها. قد يعلن ايضا حالة الطوارئ في المناطق المشتعلة، كما شهدته فيرغسون، بيد ان ما يحول دون ذلك الخيار هو الثمن السياسي المرتفع وامكانية مفاقمة الأمور ودفعها الى حافة الانفجار عكس ما يريد.

القانون الاميركي يساوي بين إعلان الأحكام العرفية وحق الفرد المثول أمام القضاء والدفاع أمام ظروف الاعتقال، مما يدخل عامل القضاء في النظر بأحقية ومشروعية الاعتقال. كما انّ الدستور الاميركي يخوّل السلطة المركزية تعليق العمل بحق مثول المتهم امام القضاء، الفقرة التاسعة من المادة الاولى للدستور، «لا يجوز تعليق حقّ المثول امام المحكمة، الا في حالات التمرّد او الاعتداء على السلامة العامة كما يقتضي ذلك.» اي ان الدستور يجيز اعتقال السلطات لأي كان واحتجازه دون توفر الدلائل على خرقه للقانون.

المساعي التي بذلها الرئيس اوباما واركان حكومتة، لا سيما في إيفاده وزير العدل شخصياً للإشراف على التهدئة لا ينبغي ان يقودنا الى الاستنتاج بأنّ الأمور عادت الى وتيرتها السابقة فالاضطرابات قد تشتعل في منطقة أخرى في أي لحظة نظراً إلى أنّ عوامل التفجير متأصّلة في البنية السياسية ذاتها. إضافة إلى نضوج الظروف الموضوعية لعوامل الانفجار، هناك ايضاً بلورة للظروف الذاتية للقوى المتضرّرة، وان تبدو هامشية للبعض: التشكيلات المختلفة بين السكان الأفارقة الاميركيين، خاصة إعادة إنتاجها لتنظيم «الفهود السود الجديد» في مدن الكثافة السكانية الكبرى ولديها اسلحة خفيفة والقوى الفوضوية التي برزت بقوة اثناء احتجاجاتها المتكرّرة والعنفية أحيانا ضدّ سيطرة رأس المال والبنك وصندوق النقد الدوليين، أغلب أعضائها من الفاشيين البيض اختصاصها المظاهرات والعصيان المدني، لا سيما امام مؤتمرات الدول الصناعية الثمانية، ويتقنون ميزة التعامل مع وسائل التقنية الحديثة، اذ قاموا بشنّ هجمات الكترونية ضدّ مواقع مدينة فيرغسون الرسمية والميليشيات اليمينية المدججة بالأسلحة. كلّ من تلك القوى تشكل تحدياً بحدّ ذاتها للسلطة المركزية، حتى وانْ لم تتشارك او تتقاسم الاهداف فيما بينها.

ربما تشكل الميليشيات اليمينية أكبر تهديد للسلطات المركزية نظراً إلى أعدادها الكبيرة واتساع رقعة انتشارها في عموم الولايات المتحدة، والاسلحة المتعدّدة التي بحوزتها، لا سيما أنّ عدداً لا باس به من أعضائها يتقنون استخدام السلاح بكافة أنواعه والتكتيكات العسكرية نظراً لخبرتهم أثناء فترة أدائهم الخدمة العسكرية. اجراءات التحقيق في احداث المواجهة مع السلطة المركزية في محيط مزرعة بندي اشارت الى ضلوع قناص محترف من صفوف الميليشيات والذي اشترك في العدوان على العراق واكتسب مهارة معتبرة، وقام بتوزيع عدد من القناصة تحت امرته على أماكن عدة من المزرعة. الأساليب القتالية التي أظهرتها المجموعة تفوّقت على القوة المركزية المنوطة بالسيطرة على الأحداث هناك، مما دفع بالمشرفين في السلطة المركزية الى التراجع وسحب رجالاتهم خشية تطور الأوضاع الى الأسوأ.

في هذا الصدد، حمّل مسؤولون رسميون تلك الميليشيات مسؤولية التعرّض لشبكة توزيع الكهرباء في كاليفورنيا، العام الماضي، والذي لا يزال التحقيق جارٍ فيه من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، والذي استنتج انّ الفعلة طبّقت عن سبق إصرار وتصميم ونفذت بحرفية عالية.

الازمة الاجتماعية تعرّي العنصرية الاميركية الممنهجة

التباينات والاختلافات الجوهرية بين تلك القوى المتضرّرة من السلطة المركزية قد تجد قاسماً مشتركاً للتعاون في ما بينها لتحقيق مآربها مع احتفاظ كل منها باستقلاليته عن الآخر. التاريخ البشري حافل بمشاهد وامثلة عديدة لتقاطع المصالح والأهداف بين قوى متضادة في الجوهر والبنية والأسلوب.

من نافل القول انّ الأجهزة الامنية الاميركية راكمت تجربة معتبرة في تصديها للاضطرابات المدنية، بصرف النظر عن الأساليب القاسية المستخدمة، لا سيما منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية بكثافة في عقد الستينيات من القرن المنصرم. وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى إصدار سلاح الجيش الاميركي كراساً بعنوان «تكتيكات الجيش الاميركي: الاضطرابات المدنية»، في شهر نيسان من العام الجاري والذي يفصل التجهيزات والتدابير المنوي اتخاذها في حال اندلاع «اعمال شغب واسعة النطاق» في الولايات المتحدة مما يستدعي تدخل القوات العسكرية «لاستخدام اسلحة فتاكة» والتعامل مع الحشود المكثفة للمحتجين. اللافت اأضا في نصوص الكراس انها تلقي جانباً «بالحقوق الدستورية للمواطنين الاميركيين التي تعتبر لاغية وباطلة في ظل حالة الطوارئ.»

محصلة النظرة الموضوعية بعد كلّ ما تقدم تشير بقوة الى ان الأوضاع الداخلية الأميركية لا زالت تنعم بالاستقرار النسبي، والاحتجاجات التي اندلعت في فيرغسون تمت السيطرة عليها وحالت دون انتشارها إلى مناطق أخرى، للحظة، لكنها لا زالت تشكل بؤرة اشتعال يصعب التنبّؤ بمآلاتها. تلك الأحداث الشعبية، وهي كذلك في فيرغسون، تحاكي ما شهده الاتحاد السوفياتي السابق من احتجاجات توسّعت بسرعة وأطاحت بالنظام السياسي برمّته. ايضاً كانت يوغوسلافيا واحة من الاستقرار ومحطة مفضلة يقصدها السياح من كلّ أماكن المعمورة، لكنها انزلقت سريعاً وشهدت اضطرابات مدنية في عقد التسعينيات من القرن المنصرم، أذكاها عنصر التدخل الخارجي من حلف الناتو حتى استطاع تقسيمها وتشظيها.

عند استحضار هذه الخلفية، يمكننا القول إنّ اندلاع مواجهات واضطرابات واسعة النطاق، بين المواطنين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم والأجهزة الحكومية في الشق الغربي من الولايات المتحدة هو أمر في طريق التطوّر، وينذر بتشكيل تهديد إضافي للنسيج الاجتماعي الاميركي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى