الحرب الفرنسية ضدّ «داعش» يجب ألّا تكون في سورية
نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تقريراً جاء فيه: لقد كان هذا الصيف ساخطاً في أوروبا الغربية، وفرض ضريبته على الحياة والروح المعنوية والمزاج العام. وعملياً كل يوم هناك تقارير جديدة عن هجوم جديد، يحدث إما من قبل شبان مضطربين، أو من الذين يقودون تنظيم «داعش» لضرب «الصليبيين»، أو كليهما. وتزداد الأسلحة على نحو كبير من الشاحنات المستأجرة لسكاكين المطبخ، ومعظم الفرنسيين ـ النساء خصوصاً لأسباب منطقية ـ يضعون لأنفسهم إنذاراً آخر مع كل ضربة جديدة من الدولة المتزايدة. هذا هو الوضع الطبيعي الجديد، كما أعلن رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، وحذّر أن الاختيارات محصورة بين مواجهة الأمر معاً، أو الفزع وفقد السيطرة على هذه المؤامرة.
ومنذ الهجوم على كنيسة في سانت إتيان دو روفاري، إحدى ضواحي الطبقة العاملة في روان في منطقة نورماندي هذا الأسبوع، أصبحوا يشعرون بشعور مختلف حول مرحلة ما بعد تنظيم «داعش»، من فتنة طائفية، ومن الناحية الرمزية، فإن أيقونية هجوم 26 تموز لا يمكن أن تكون أشدّ حدّة. كاهن ثمانينيّ ضعيف نُحرت رقبته على المذبح خلال القدّاس الصباحي، مع وجود جماعة صغيرة من ثلاث راهبات كاثوليكيات، واثنين من أبناء الرعية المسنّين، في راكدة نورمان، في مشهد يبدو كأنه لوحة دامية من القرون الوسطى. هذا هو بالضبط نوع من التصوّر الذي يقوم عليه تنظيم «داعش»، ويظهر ذلك بوضوح في «خلافة الشرق الأوسط»، وفي جزء من أوروبا، التي كانت قد أغلقت هذا الفصل من الماضي المظلم وتركته للمتاحف.
وليس من المرجح أن يحصل الجهاديون على الحرب الأهلية الشاملة كما يريدون، لكن قد يصبح الوضع قاتماً جدّاً، إذا لم يتخذ السياسيون الفرنسيون والجمهور تحركاتها القليلة المقبلة بشكل صحيح. وبعد يوم من الهجوم على الكنيسة، بدا الرئيس فرانسوا هولاند بفعل الشيء الصحيح، عندما التقى كبار الزعماء الدينيين في البلاد، الذين اجتمعوا معاً لإصدار دعوة إلى الوحدة. وأعرب إمام مسجد باريس الرئيس، دليل أبو بكر، عن حزنه العميق إزاء الهجوم، وقال إنّ أيّ تدنيس للمقدّسات هو كفر، ويخالف كل تعاليم ديننا. كما دعا إلى تشديد الإجراءات الأمنية، والتدريب الأفضل لرجال الدين، وإصلاح المؤسسات الفرنسية المسلمة.
وبالطبع إنه على حق، لكن بينما نحن في ذلك الوضع، هناك إصلاحات وسياسات أخرى كثيرة، أعادت التفكير في أن فرنسا تحتاج إلى وضعٍ يوجد على رأس جدول الأعمال. وفي الجزء العلوي من القائمة، يجب معرفة كيف يمكن للبلد أن تنتهي حربها ضدّ تنظيم «داعش».
فرنسا ـ أكثر من أيّ دولة غربية أخرى ـ ثبت تعرّضها بشكل خاص لهذه العلامة التجارية التدميرية الجديدة من الجهادية. وهذا ليس مجرد شعور ـ فقد تم إثبات تلك الحقيقة، عندما نشرت ويليام مكانتس وكريستوفر ميسرول هذه السنة نتائجهما البحثية الأولية في الشؤون الخارجية، التي أظهرت فرنسا، والبلدان الناطقة بالفرنسية، الأكثر عرضة لخطر الهجمات المتطرفة والجهادية، وهنا تتحدث الأرقام عن نفسها: ففي فرنسا حدثت تسع هجمات، بما في ذلك اعتداء «شارلي إيبدو»، وهجوم 13 تشرين الثاني في باريس، وهجوم شاحنة نيس، ما أدّى إلى تمزق في فرنسا في الأشهر الـ18 الماضية، والشعب الفرنسي المتمتع بالمرونة الشهيرة، تجمع في كانون الثاني 2015، وبدأوا في اليأس.
ولمعرفة لماذا تتصدّر فرنسا الرسوم البيانية في الهجمات الجهادية، وما ينبغي القيام به حيال ذلك، فإن ذلك يتطلب خبرة ولدى فرنسا منها الكثير والمرونة في اعتماد وتنفيذ سياسة أعادت التفكير التي تفتقر إليها بشدة . وهنا مكان جيد للبدء: والجدال هنا حول أن آلة الدعاية لتنظيم «داعش» وضعت هدفاً تضجّ به مراراً وتكراراً، لحثّ أنصارها على استهداف فرنسا، يجعل احتمال التدخل العسكري لباريس في بلاد المسلمين قائماً.
وتشارك فرنسا في عمليات عسكرية في جميع أنحاء منطقة الساحل وشمال أفريقيا، كذلك مع قوات التحالف، التي تقودها الولايات المتحدّة ضدّ تنظيم «داعش» في سورية والعراق، وبعد كلّ هجوم جهادي، يتعهّد أولاند بالمزيد من النار والكبريت ضدّ التنظيم البربري، ففي أعقاب هجمات 13 تشرين الثاني في باريس، التي أسفرت عن مقتل 130 شخصاً، قصفت الغارات الجوية الفرنسية مدينة الرقة في سورية. وبعد هجوم نيس، أبقى هولاند أغاني الحرب في خلفية خطابه المتلفز للأمة، الذي قال فيه: لا شيء يجعلنا نضعف عن عزمنا في محاربة الإرهاب. وسنتمكن من تعزيز أعمالنا في العراق وسورية. وكيف لتلك الضربات الجوية أن تفعل شيئاً في شاب تونسيّ مختلّ وعنيف، ولا علاقة له بهذه الجماعة الجهادية، دفع بشاحنة مستأجرة في حشد يصعب فيه تخمين شخصية أيّ أحد. ويوم الثلاثاء أعاد هولاند ذلك مرة أخرى، عندما تعهّد بكسب الحرب بالوسائل كافة.
تكرّر الشعار إلى حدّ الغثيان، على لسان الطبقة السياسية الفرنسية، حتى أصبح النقاش قليلاً أو معدوماً في شأن «إلي أين يقود ذلك البلاد؟»، وبعد ما يقارب سنتين، انضمت فرنسا إلى التحالف ضدّ تنظيم «داعش»، وتغيرت الأوضاع على الأرض في سورية والعراق إلى حدّ كبير. و تحوّلت الحرب في الشرق الأوسط إلى قتال حتى النهاية بين السنّة والشيعة. وفي سورية، فرنسا وما يسمّى الغرب، عالقون على الجانب الذي تمثله المملكة العربية السعودية، وهي مملكة تسودها الحركة السلفية، إذا كيف ولماذا نحن عالقون على هذا الجانب من الصراع في سورية، وما الخطة الممكنة لدينا لملء فجوة الطاقة، التي ستنتج عن رحيل بشار الأسد، المطلوب من فترة طوية، على حدّ تخمين أيّ شخص.
لكن كلّ زعيم يحبّ حرباً جيدة، بعد أي هجوم إرهابي قاتل، والسياسيون الفرنسيون ليسوا استثناء. وعبّر كل من قادة الأحزاب السياسية الرئيسة في فرنسا عن معارضتهم للعمليات العسكرية في العراق وسورية. وأن القيام بذلك ليس وصفة جيدة للفوز بالانتخابات، خصوصاً عندما اهتزّ الرأي العام بالتهديد الأخير. إنهم يعتقدون بشكل ساحق أن عليهم فعل شيء، ويتضمن هذا الشيء العمليات العسكرية في مسرح آخر للحرب.
ومنذ نفّذ تنظيم «داعش» عمله الإرهابي الأوّل، وأطلّ بوجهه القبيح في فرنسا عام 2014، أكّد سياسيون وخبراء وقتذاك أن البلاد تفتقر إلى الموارد وأفراد الأمن لمراقبة المشتبه بهم، والحفاظ على أمن البلاد. وبعد ذلك بسنتين، أصبح نقص الموارد، والمعروف بِاسم «هذا كبير جداً على أن تتعامل معه» حجّة، لا تزال تخرج في أعقاب كل اعتداء جديد. وذهبت الجهود المبذولة لمكافحة التطرف في فرنسا سدى. ووصلت حمى الاشتراك في الجماعات الجهادية بين الشباب الضال، مرحلة لم يسبق لها مثيل، واستمرت الاستجابة الفرنسية أن تكون في كل مكان. وفي الوقت نفسه يتم إهدار الوقت والطاقة والموارد في العمليات العسكرية الأجنبية.
ولم تكن صيحات الاستهجان، التي أطلقها فالس بصوت عال خلال تأبين ضحايا الهجوم الذي وقع في نيس مفاجأة لأحد، فالشعب الفرنسي لديه ما يكفي من الثغرات الأمنية. واليمين السياسي هو القوة الصاعدة في فرنسا وباقي أوروبا، وترتفع أسهمه مع كل هجوم، مقارنة يشعبية هولاند، التي وصلت مستويات قياسية في التدني، قبل سنة من الانتخابات الرئاسية عام 2017.
إذا كانت هناك أيّ دروس أمنية يمكن استخلاصها من الهجوم على كنيسة نورماندي، فهي ليست جديدة. ومرة أخرى، أحد المهاجمين ـ وهو مجرّد مراهق يدعى عادل كميش ـ كان على قائمة المراقبة «S» بعد محاولة فاشلة في الوصول إلى سورية مرّتين، ووُجّهت إليه تهمة التآمر لارتكاب جريمة مع منظمة إرهابية واعتُقل حتى آذار، وأطلِق سراحه بكفالة في انتظار المحاكمة، ووُضِع تحت الإقامة الجبرية، المزوّدة بأجهزة مراقبة إلكترونية، التي سمحت له بمغادرة منزله في يوم من الأسبوع من الساعه 08:00 حتى 12:30، ووقع الهجوم في 9:25 في صباح قداس الثلاثاء.
ولأن الهجوم وقع في محل تواجد كميش في سانت إتيان دوروفاري، فلم يطلق السوار أيّ تنبيه. وبعبارة أخرى، كان المهاجم يرتدي سوار المراقبة في يده وهو يشق حلق جاك هامل الكاهن المسنّ. ما يعني بوضوح ضرورة تشديد شروط الإقامة الجبرية للمتهمين بالإرهاب. وهذا يعني أيضاً زيادة الاحتياجات الأمنية للتشديد على الكنائس ـ كما الحال في دور العبادة اليهودية والمسلمة ـ والنقاش في هذه الأيام هو، ظاهرياً، عمّا إذا كان يريد الفرنسيون الإجراءات الأمنية على غرار «الإسرائيلية»، لكنه يأتي بالفعل في وقت متأخر جداً على هذه المناقشة. وقد جعلت رأي الجمهور واضحاً جداً، مطالبين بتشديد الأمنيات مرة أخرى، وأنهم على استعداد للعيش مع وجود أمنيّ معزّز في الأماكن العامة.
ومن غير المفيد التدابير من النوع، الذي اتخذ يوم الأربعاء من خلال قيادة صحيفة «لوموند» الفرنسية، جنباً إلى جنب مع محطة التلفزيون الفرنسية «BFM»، وعدد من الوكالات الأخرى، بعدم نشر صور المهاجمين «لتفادي وقوع تمجيد بعد وفاته». وقد حذت الدولة حذوها، فبدأت بتغيير سياستها وتحديد الجهاديين من الحروف الأولى من أسمائهم فقط، أو الأسماء الأولى، وبطبيعة الحال، لدى وسائل الإعلام مسؤوليات، لا سيما في هذه الأوقات القلقة. لكن عدم نشر صور المهاجمين الجهاديين لا يصبّ في مصلحة تهدئة الجمهور أو إعطاء فرصة للسلام، ما يجعل من الصعب على المجتمع الفرنسي بأسره، فهم التهديد الذي يواجهه.
ويحبّ السياسيون الفرنسيون استخدام مصطلح «la guerre» أو «الحرب» للحديث عن الحرب ضدّ الإرهاب. وما لا يريدون استيعابه وتقبّله، أن هذا في الواقع حرب ضدّ أنفسهم. وقد أجريت جميع الهجمات الجهادية الكبرى في فرنسا على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، من قبل مواطنين فرنسيين أو مقيمين. الآن، لن يقوم بالحرب سوى الفرنسيين، الذين بالكاد يفهمون الحياة ويعيشون في جزء من العالم، في مجتمع لا يتيح لهم حرية التنقل. ومع كل هجوم، فإنهم سيموتون كما مجهولي الهوية، والوحش مجهول، ما يجعل فهم الخطر المحدق بهم، أكثر صعوبة بالنسبة إلى الجمهور، والطريقة الوحيدة لإحباط هذا التهديد هو عن طريق قتل نداء الجهاد من جذوره. أما بالنسبة إلى تمجيد القاتل بعد وفاته، الذي يجري القيام به بشكل جيد للغاية في طبقة الجهاديين، فإنه من غير المنتظر أن يتطلع إلى أمثال «لوموند»، لإكرامه بعد «الاستشهاد».
أما بالنسبة إلى معالجة جذور المشكلة، فمرة أخرى، إن الهجوم على الكنيسة من الدروس التي كان يجب أن نتعلمها منذ سنوات. ونبّهت أسرة كميش السلطات الفرنسية إلى تطرّفه. وقالت والدته، التي تعمل مدرّسة، لليومية السويسرية الناطقة بالفرنسية «تريبيون دو جنيف»، إن هجمات مجلة «شارلي إيبدو» في كانون الثاني 2015، كانت بمثابة الفتيل على المراهق، وقالت نحن لا يمكننا ممارسة ديننا بسلام في فرنسا، أضافت: كان يتحدث بكلمات لا تنتمي إليه، كان مسحوراً وكأنه كان في عبادة. وبعد فترة وجيزة، واجهت العائلة الصبيّ بحساب سرّي على «فايسبوك» اعتاد على الاتصال منه بشباب متطرّفين آخرين، جعلوا كميش يقوم بأوّل محاولة له للذهاب إلى سورية.
ومن الملاحظ وجود عائلة فرنسية أخرى تتوسم المساعدة لأن فتى منها تورط في قضية انتحار، وتحتاج الدولة إلى بذل المزيد من الجهد لمساعدة هذه الأسر والتصدّي للمشاكل المنزلية، التي ستكون أكثر صعوبة بكثير للقيام بها، في حين أنها تجعل من نفسها هدفاً سهلاً عن طريق شنّ الحروب في بلاد بعيدة، مع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق.