«جبهة النصرة» ماتت… وأقوى من أيّ وقت مضى
كتب تشارلز ليستر في «فورين بوليسي»:
أعلنت «جبهة النصرة» يوم 28 تموز الماضي أنها قطعت كلّ روابطها مع تنظيم «القاعدة»، وأسّست حركة جديدة في سورية: «جبهة فتح الشام». وصادقت القيادة العليا في تنظيم «القاعدة» رسمياً على الخطوة غير المسبوقة، والتي أتت أيضاً مع إعلان المجموعة عن هوية قائدها الحقيقية للمرّة الأولى.
في بيان في شريط فيديو تم بثّه بالتزامن على قناة «أورينت» المؤيدة لـ«المعارضة» وفضائية «الجزيرة» القطرية، عرض زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني ـ والذي تم الكشف عن اسمه الحقيقي بشكل منفصل: أحمد حسين الشرع ـ هذا الانفصال على أنه جاء مدفوعاً بالرغبة في تشكيل جسم موحّد لـ«القوات الإسلامية»، ولرصّ صفوف الفصائل المتباينة في «الثورة السورية»، لضمان الدفاع الموثوق عن الإسلام في وجه الهجوم عليه. وفي استمرار للتمسك بالثيمة نفسها، قدّم الجولاني «جبهة فتح الشام» كحركة سوف توجد من أجل الحماية والخدمة، لا للحكم والقمع. كما قال أيضاً إن الانتباه المتزايد الذي توليه المجموعة الدولية للحركة بسبب روابطها مع «القاعدة» كان السبب وراء «الإلغاء التام لعملياتها كافة تحت اسم جهة النصرة».
ينبغي ألا يحتار أحد أمام هذه المناورة: إن «جبهة النصرة» تبقى خطيرة ومتطرّفة كما كان حالها على الدوام. وبقطع روابطها مع «القاعدة»، تظهر هذه المنظمة على نحو أكثر وضوحاً من أيّ وقت مضى منهجها في اللعبة السورية الطويلة، والتي تسعى من خلالها إلى الانخراط في داخل الديناميات «الثورية»، وتشجيع «الوحدة الإسلامية» من أجل التغلب على أعدائها من ناحية الذكاء، القريبين منها والبعيدين على حدّ سواء. وبهذا المفهوم، تختلف «جبهة النصرة» راهناً «جبهة فتح الشام» بشكل ملحوظ عن مجموعة «داعش» التي عملت دائماً وحدها وفي تنافس مباشر مع الفصائل الإسلامية المسلحة الأخرى. وبدلاً من السعي إلى الوحدة، سعت مجموعة «داعش» علناً إلى الانقسام.
في نهاية المطاف، وفي حين قد يكون هذا تغييراً في الاسم والتبعية الرسمية، سوف تظل مجموعة الجولاني هي نفسها إلى حدّ كبير. ولذلك لا يشكل هذا بأي مقياس خسارة لتنظيم «القاعدة». وفي الحقيقة، يشكل هذا الانفصال مجرد أحدث انعكاس لطريقة جديدة وأكثر فعالية بكثير من الجهاد الذي يركز على العمل الجمعي والتدريجي والمرن. ويكمن هدفه في تحقيق مكاسب تكتيكية متكررة، والتي سترقى ذات يوم إلى مرتبة الانتصار الاستراتيجي الكبير: تأسيس إمارة إسلامية تحظى بقبول أو دعم شعبي كافٍ.
لعبت القيادة المركزية في تنظيم «القاعدة» دوراً كبيراً في تحديد مسار هذه الخطوة، والتي تمت الإشارة إليها في سياق تسلسل الإعلان. فقبل ست ساعات من ظهور أبي محمد الجولاني على الشاشة، نشر الجناح الإعلامي لـ«جبهة النصرة»، «المنارة البيضاء»، بياناً إذاعياً أعطى فيه زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، ونائبه، أحمد حسن أبو الخير مباركتهما العلنية لقطع الروابط. وقال الظواهري: «إن وشائج الأخوّة الإسلامية هي أقوى من أيّ روابط قديمة بين التنظيمات. وتجب التضحية بهذه الروابط التنظيمية من دون تردد إذا كانت تهدد وحدتنا».
وكان تحدث أبو الخير أيضاً شأناً مثيراً للانتباه بشكل خاص، في ضوء احتمال أنه كان يقيم داخل سورية منذ أواخر عام 2015 على الأقل، كما كنتُ قد كشفتُ في وقت سابق من هذه السنة.
نشرت «جبهة النصرة» أيضاً أول صورة مؤكدة، ثم شريط فيديو يظهر الجولاني الذي كان يصرّ في السابق على إخفاء وجهه. وبطريقة محيّرة، وعلى رغم فكّ روابطه مع تنظيم «القاعدة»، ظهر الجولاني مرتدياً زياً عسكرياً أخضر اللون وواضعاً عمامة بيضاء على رأسه، فيما بدا أنه محاولة واضحة لتكرار صور معروفة جداً لأسامة بن لادن. وفي خطاب الفيديو، كانت حول الجولاني شخصيتان رئيسيتان لهما روابط مع تنظيم «القاعدة»، بينهما أحمد سلامة مبروك أبو فرج المصري ، الجهادي المخضرم الذي يتوافر على خبرة قتالية في مصر وباكستان وأفغانستان واليمن والسودان وروسيا وأذربيجان. ولأنه كان أقرب مساعدي الظواهري في التسعينات، وقع جهاز حاسوب مبروك الشخصي في أيدي عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية في باكو عاصمة أذربيجان، ووصف بأنه «حجر رشيد للقاعدة»، أي الذي يفكّ كل رموزها .
ببساطة، يقوم تنظيم «القاعدة» بتنسيق فكّ ارتباط تابعه السوري مع قيادته المركزية الخاصة لغاية المحافظة على الحيوية طويلة الأمد لـ«جبهة النصرة» وأهدافها الجهادية الاستراتيجية. وتظل الروابط الأيديولوجية بين تنظيم «القاعدة» و«جبهة فتح الشام» قوية.
يأتي هذا التطوّر الأحدث في وقت حسّاس على نحو خاص، بينما تبدو الولايات المتحدة وروسيا مصممتين على تنفيذ مستوى معين من العمليات العسكرية ضد «جبهة النصرة» في سورية. ورغم محاولات سرّية وعلنية متكرّرة لتشجيع مجموعات «المعارضة السورية» على الخروج من مناطق في سورية حيث توجد «جبهة النصرة»، فإن مجموعات «الثوار» المدعومين أميركياً لم تغيّر مناطق انتشارها. وبالنسبة إلى عدد من السوريين، يعتبر الانسحاب من هذه الجبهات الأمامية مساوياً لخيانة خمس سنوات من الدماء التي أهدرت لتأمين مكاسب عسكرية. ويعني ذلك للبعض أيضاً خيانة مجموعة مسلحة، «جبهة النصرة»، والتي قاتلت بثبات وفعالية معهم منذ عام 2012.
من خلال فكّ روابطها مع تنظيم «القاعدة»، أكدت «جبهة النصرة» أنها ستبقى في داخل الخطوط الأمامية لـ«المعارضة» بشكل عميق، وخاصة في المحافظتين الشماليتين حلب وإدلب. ومن المؤكد أن أي ضربات جوية تشنها دول أجنبية وتستهدف المجموعة سوف تؤدي في الغالب إلى مقتل مقاتلين من الاتجاه السائد في «المعارضة»، وسوف ينظر إليها على الأرض على أنها «مضادة للثورة». وتبعاً لذلك، فإن فإن أي مهمة تحددها موسكو وواشنطن بمصطلحات محاربة الإرهاب ستوسع وفق كل الاحتمالات من طيف أولئك الذين يعرفون بأنهم «إرهابيون»، ما يعيق بشكل كبير أي حل مستقبلي للأزمة السورية.
كان السوريون في «المعارضة المسلحة» يوجّهون الدعوات إلى «جبهة النصرة» لفصل نفسها عن تنظيم «القاعدة» منذ أن بايع أبو محمد الجولاني «القاعدة» وأعلن ولاءه لها في نيسان 2013. وقد أدت حالة الترشيد المتزايدة لـ«جبهة النصرة» منذ منتصف 2014 وعملياتها العدوانية بين الفترة والأخرى ضدّ «الجيش الحرّ» المدعوم أميركياً، إلى تكثيف هذه الدعوات الموجهة إلى «جبهة النصرة» لتوضيح ولاءاتها: لسورية أم لـ«القاعدة»؟
في الماضي، أعاقت هذه المخاوف على الأرجح قدرة «جبهة النصرة» على التجنيد وفق المعدل الأقصى لها. وإضافة إلى ذلك، قال لي عدد من القادة الإسلاميين النافذين الناشطين في اللاذقية وإدلب وحلب بشكل متكرر أنهم كانوا يعملون بهدوء لثني الشباب السوريين عن الانضمام إلى «القاعدة» في سورية.
أما النتيجة المحتملة الأكثر أهمية لهذا التطور الأحدث، فستتجسد في اندماج «جبهة فتح الشام» مع المجموعة السورية السلفية «أحرار الشام». ومع ذلك، يبدو مثل هذا الإجراء بعيداً بعض الشيء لأنه يستمر في مواجهة عوائق بنيوية وتنظيمية. والأكثر ترجيحاً في المدى القريب هو حدوث زيادة في ائتلافات محددة بالمنطقة، والتي تسعى فيها مجموعات مسلحة متعددة إلى دمج قياداتها العسكرية حتى تشكل تحدياً أكثر فعالية لخصومها في الميدان. ووفق كل الترجيحات، فإن ائتلافات «المعارضين» الموجودة في إدلب وحلب ـ خصوصاً «جيش الفتح» ـ ستشكل الأساس لمبادرات الوحدة العسكرية هذه.
من خلال تمهيد الطريق نحو هذه الدينامية، يكون الجولاني وضع تحدياً أمام «المعارضة السورية». وسوف تُجبر المجموعات الأكثر «اعتدالاً» من «الجيش الحرّ» على الاختيار بين الوحدة العسكرية والوحدة «الثورية» أو العزلة العملياتية والإخضاع. وباختصار، تتخذ «جبهة النصرة» خطوة أخرى أيضاً نحو تشكيل توجهات «المعارضة السورية» لصالحها.
قد تكون «جبهة النصرة» و«القاعدة» قد انفصلتا في العلن، لكن الروابط التنظيمية والأيديولوجية التي تربطهما سوف تثبت أنها عصية على الفصم. فما تزال «القاعدة» توزع شخصيات رفيعة مخضرمة في سورية من عموم العالم الإسلامي منذ عام 2013 بغية تعزيز المصداقية الجهادية لـ«جبهة النصرة»، وللاستفادة من الفوضى العارمة في سورية لتأسيس ملاذ آمن قادر على شن عمليات جهادية طويلة الأمد وعابرة للحدود. وسيظل هؤلاء الأشخاص في مكانهم سعياً وراء تحقيق الأهداف نفسها، كما فعلوا عندما وصلوا أول الأمر ـ وتماماً مثل القيادة العليا لـ«جبهة النصرة»، لن ينسى أي منهم فجأة جذوره الجهادية العالمية. وبعد كل شيء، قال زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري نفسه في آذار، إنه يجب عدم النظر النظر إلى علاقة المرء بالجهاد الدولي على أنها تقف عائقاً أمام تحقيق «الآمال الكبرى للأمة الإسلامية».
كان أحد الأوجه المركزية لاستراتيجة «القاعدة العاملة» في سورية، خلق جهاد محلي تطوّر من مشروع مدفوع نخبوياً إلى منحى إحيائي إسلامي بقيادة الجماهير. وعموماً، ركزت طريقة العمل لدى «جبهة النصرة» حتى وقت متأخر من عام 2015 على تأسيس، ثم تعزيز هذه المرحلة «النخبوية» الأولى من «الجهاد السوري» حيث يبادرون هم وعدد منتقى من الوحدات الجهادية الأصغر الموالية ضمناً لـ«تلقاعدة» إلى ترويج «القضية الجهادية» في سورية. ومع ذلك، ومنذ نهاية عام 2015، توصل تقييم داخلي إلى أن قاعدة كافية من «المجتمع المعارض» قد تم اجتذابها لدعم المكانة المتصاعدة للمجموعة. وكان الجولاني قد أشار إلى هذه المرحلة من الأدلجة مبكراً في كانون الأول 2013، عندما ادّعى بأن «المجتمع السوري قد تغيّر كثيراً في الحقيقة: إنه لم يعد نفس مجتمع ما قبل الثورة. وستكون هناك علامة تاريخية في الشام لما قبل وما بعد الجهاد».
منذ أواخر عام 2015، كانت «جبهة النصرة» تنتقل من جهاد مدفوع نخبوياً إلى مرحلتها الثانية التي شجعت تطوير الحركة الجماهيرية التي تدعو إلى الحكم الإسلامي في سورية. وعندما قويت مشاعر «المعارضة السورية» بوجود إهمال دولي لها، أصبح لرسالة «الوحدة» التي تطرحها «جبهة النصرة» جمهور مرحّب أكبر، مع أن روابطها مع تنظيم «القاعدة» ما تزال تشكل العائق الرئيس أمام تحقيقها.
بينما ركزت على تخريب الجهود الدولية لإطلاق عملية سياسية ولإدامة وقف الأعمال العدائية في سورية، اقترحت «جبهة النصرة» اندماجاً كبيراً مع «مجموعات المعارضة» في كانون الثاني 2016 في مقابل احتمال فكّ روابطها مع تنظيم «القاعدة». واستمرت تلك المباحثات منذ ذلك الحين، جاذبة من حين إلى آخر «شخصيات جهادية» مرموقة لها روابط مع «القاعدة»، والتي سافرت إلى داخل شمال سورية للتوسّط. وقد قتل واحد منهم في ضربة لطائرة أميركية من دون طيار في نيسان 2016. ووصلت الأمور إلى نهايتها في وقت مبكر من تموز عندما بدا عدد من كبار شخصيات «النصرة» عازمين على الانشقاق وتأسيس فصيل جديد يدعى «الحركة الإسلامية السورية».
عندئذ، شعر الجولاني بأن ذلك كان بمثابة إنذار نهائي لسلطته. ولذلك دعا على عجل إلى اجتماع لمجلس شورى «جبهة النصرة» في محاولة تكللت في النهاية بالنجاح للحفاظ على تلاحم حركته، وهو ما كنت قد أمطتُ اللثام عنه أولاً يوم 23 حزيران.
إن هدف «جبهة النصرة» بسيط: إنها تسعى إلى بناء غطاء متمدّد من الشرعية في سورية، والذي سيكون يوماً ما في المستقبل ذا أهمية حتمية لتبرير تأسيس إمارة إسلامية. وقد أظهرت المجموعة باستمرار أنها تتوافر على قدرة مؤثرة في العمل وفقاً لحساسيات السوريين الذين يعيشون معها. ونادراً ما أفرطت في تجاوز الخطوط إلى حد إثارة تحد لسلطتها بحيث لا تستطيع إدارته. ورغم أنها عوّمت فكرة الإمارة في وقت سابق، فقد أثبتت هذه الفكرة أنها لا تحظى بشعبية كبيرة لأسباب متنوّعة، أحدها تبعية المجموعة لتنظيم «القاعدة».
بينما تتكشف لعبة «جبهة النصرة» الطويلة في سورية، فإنها تشكل تحدّياً كبيراً للمجموعة الدولية. ورغم أن هناك عدداً من الخلافات الكبيرة بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن من الصعوبة بمكان تخيّل سيناريو يكون فيه مستوى بعض الضربات الجوية غير موجّه لـ«جبهة فتح الشام»، أو مهما يكن الاسم الذي تحبّ أن تطلقه على نفسها. ويبدو أن ثمة القليل من الفرصة للعودة، وسيكون صانعو السياسة محقين في عدم رؤية فكّ ارتباط «جبهة النصرة» مع «القاعدة» على أنه يجعل منها تنظيماً أكثر «اعتدالاً».
وربما يكون الأكثر أهمية أنّ هذا التطوّر الأحدث قد جعل من الأكثر إمكانية أن تقوم دول إقليمية، وعلى نحو خاص قطر وتركيا، بمحاولة تقديم دعم مادي مباشر للمجموعة. ومن المرجح أن تعمد تركيا على وجه الخصوص إلى استخدام الحجة بأن «جبهة فتح الشام»، التي لا روابط لها مع «القاعدة»، تعتبر شريكاً شرعياً تماماً مثل حليف واشنطن المعادي لـ«داعش»، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
أمام هذه المعضلة، من المحتم أن تبادر المجموعة الدولية إلى اتخاذ إجراء عسكري ضدّ «جبهة النصرة». ومع ذلك أصبحت تداعيات مثل هذا العمل أكثر إثارة للقلق. وفي نهاية المطاف، يخاطر من يتبقّى من معارضة الاتجاه السائد بأن يتم جرّه إلى أتون تصعيد دوليّ يبدو وأنه يتغذى بوقود الرغبة في محاربة «القاعدة»، مع تقدير غير كافٍ لتعقيد الديناميات الأوسع في سورية.