«ملحمة حلب» مشهد إقليمي لحرب «باردة» عالمية

د. عصام نعمان

حَشَدت جبهة «فتح الشام» «النصرة» سابقاً وحلفاؤها قوات كثيفة لفكّ طوق الجيش السوري وحلفائه المضروب على الأحياء الشرقية المحتلة في حلب. مرشد «الجهاديين» عبد الله المحيسني ومناصروه أطلقوا على المعركة اسم «ملحمة حلب». اعتبروها موقعة فاصلة. كذلك اعتبرها حلفاء الجيش السوري المنخرطون في صدّ هجمات «الجهاديين» المتعاقبة، والمؤمنون بأنّ المعركة مصيرية وستعيد رسم خريطة المنطقة برمّتها. هل بات الحسم في حلب وشيكاً؟

ليس بهذه السرعة. جميع المؤشرات تشير إلى العكس. ذلك أنّ ما من تطوّر نوعي في مواقف أطراف الصراع أو في مجريات القتال على الأرض حَدَث أو أوحى بشيء من هذا القبيل. بالعكس، ثمّة ما يشير الى أنّ الصراعات في المنطقة مديدة وأنها تتحوّل باطّراد الى مشهد إقليمي لحرب باردة عالمية تؤثر فيها او تتأثر بها دول وحكومات تمتدّ من الولايات المتحدة غرباً الى الصين شرقاً مروراً ببريطانيا وفرنسا وألمانيا، في أوروبا، وتركيا وسورية والعراق ولبنان والأردن و«إسرائيل» ومصر وصولاً الى أفغانستان وباكستان، في آسيا.

الشواهد في هذا المجال كثيرة:

ـ الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بثنائية راسخة: هزيمة «داعش» بالتزامن مع «تغيير النظام» في دمشق. الناطق باسم البيت الأبيض جوش ارنست قالها بصراحة منتقداً العسكريين الروس الذين «يولون جزءاً كبيراً من اهتمامهم ومواردهم ووقتهم وطاقتهم لدعم نظام الأسد». الرئيس الأميركي باراك اوباما أكد ما قاله ارنست، بعد اجتماعه بأركان مجلس الأمن القومي والقادة العسكريين في وزارة الدفاع «البنتاغون»، مضيفاً بأنه قلق من تحركات روسيا في سورية. أوباما لا يبدو مستعداً للتسليم بحسم الصراع في بلاد الشام قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية وتسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة في 20 كانون الاول/ ديسمبر المقبل. إلى ذلك، يشير الدعم العسكري والسياسي الأميركي المتواصل لـِ «قوات سورية الديمقراطية» الكردية إلى أنّ واشنطن ما زالت متمسكة بمخططها الرامي إلى إعطاء الكرد في شمال سورية الشرقي، وربما غيرهم في أجزاء أخرى من البلاد، حكماً ذاتياً الأمر الذي يتطلّب استمرار الصراع وعدم حسمه في الوقت الحاضر على الأقلّ.

ـ روسيا ما زالت متمسكة بثنائية معاكسة للولايات المتحدة: استئصال «داعش» وأقرانه من التنظيمات الإرهابية ودعم سورية في حربها على الإرهاب واستثمار فترة تباطؤ المبادرة الأميركية خلال الانتخابات الرئاسية لدعم الجيش السوري وحلفائه لتحقيق مكاسب ميدانية يُصار الى ترجمتها مكاسبَ سياسية إذا ما جرى استئناف مفاوضات الحلّ السياسي في جنيف. من الواضح أنّ دوافع موسكو الى التمسك بثنائيتها المارّ ذكرها روسية بالدرجة الأولى: منع انتقال عدوى «داعش» الى ملايين مواطنيها المسلمين في الداخل، والحؤول دون استخدام واشنطن للتنظيمات الإرهابية ضدّها في الداخل، كما في دول آسيا الوسطى ما يحدّ من طموحها الى العودة قطباً دولياً بنفوذ عالمي مؤثر.

ـ تركيا بعد الانقلاب الفاشل على رجب طيب أردوغان وانقلابه الشامل على جميع خصومه غيرُها قبلهما. أمور كثيرة سيتناولها التغيير في الداخل والخارج، لكن ليس بينها ما يشير الى تغيير في موقفه من سورية، رئيساً ونظاماً. قد يُضطر بسبب انهماكه بإعادة ترتيب بيته الداخلي إلى التخفيف من دعمه للتنظيمات الإسلاموية المعادية لدمشق، لكن ذلك لن يؤدّي بالضرورة الى مصالحة سياسية وايديولوجية مع سورية. «ملحمة حلب» ما كانت لتندلع لولا دعمه الوازن لجبهة «فتح الشام». مشاربه «الإخوانية» ما زالت تتحكم بممارساته السابقة للانقلاب عليه وانقلابه المضادّ. مع ذلك ثمة بين المراقبين مَن يؤمّل بحدوث تغيير ما في سياسته على هذا الصعيد بعد قمته الوشيكة مع فلاديمير بوتين في بطرسبرغ.

ـ «إسرائيل» ترى مصلحتها في استمرار الصراع وصولاً الى تجزئة سورية. هي تدرك أنّ واشنطن ماضية في هذا السبيل. كانت حاولت الضغط على إدارة أوباما لمضاعفة مساعداتها العسكرية السنوية تعويضاً لها عن إقرار الاتفاق النووي مع إيران، لكنها عادت وسلّمت بما جرى تخصيصه لها، معلّلة النفس بأنّ تعويضها الأجدى لقاء إقرار الاتفاق النووي هو في التزام واشنطن مخططها الرامي الى تجزئة سورية.

ـ إيران ما زالت مثابرة على دعم سورية بالاتفاق مع روسيا، وما زالت مراهنة على قدرة الجيش السوري وحلفائه على دحر التنظيمات الإرهابية. لعلها تراهن أيضاً على تغيير مقبل في سياسة أردوغان إزاء سورية بسبب خشيته من نجاح الكرد السوريين، المدعومين أميركياً، من السيطرة على شمال سورية من الحسكة في الشرق إلى عفرين في الغرب. ذلك من شأنه خدمة الكرد الثائرين على سلطة أنقرة في جنوب تركيا الشرقي. إلى ذلك، تخشى طهران من تحرك الكرد الإيرانيين في شمالها الغربي بدعمٍ من أميركا شأن أقرانهم السوريين. هذا الاحتمال يعزّز التقارب بين طهران وأنقرة وقد ينعكس إيجاباً على دمشق.

ـ الصين تزداد نفوراً من الولايات المتحدة بسبب سياسة الأخيرة وممارساتها في بحر الصين. هي تشعر بأنّ واشنطن ممعنة في سياسة تطويقها و«الحجْر» عليها في الشرق الأقصى. ألمْ تبادر إلى زيادة قطع أسطولها في بحر الصين؟ ألمْ تنشر المزيد من طائراتها المتطوّرة والبعيدة المدى في قاعدة «غوام» البحرية غير البعيدة عن شواطئها الجنوبية؟ إلى ذلك، تخشى الصين من تداعيات مشاركة المزيد من مواطنيها المسلمين ذوي الأصول التركية المعروفين بإسم «اغور» في الجيش التركستاني الذي يقاتل في سورية تحت امرة جبهة «النصرة» «فتح الشام» . هؤلاء سيعودون يوماً ما إلى بلادهم ويباشرون عمليات إرهابية ضدّ الحكومة والمواطنين.

يتحصّل من مجمل هذه المعطيات والتطورات انّ العلاقات بين أميركا وحلفائها الإقليميين من جهة، وبين روسيا والصين وحلفائهما الإقليميين من جهة أخرى آخذة في التوتر الذي يجد متنفّساً له في دول غرب آسيا، أيّ في سورية والعراق وتركيا وإيران، وانّ الصراعات الدائرة في بلاد الشام وبلاد الرافدين هي أحد مشاهد الحرب «الباردة» ذات الفصول الساخنة والمتجهة، على ما يبدو، الى ظواهر أكثر حماوة.

إزاء هذه الحال، لا حسم سريعاً في حلب ومحيطها في الوقت الحاضر، ذلك أنّ الصراعات المديدة في العراق وسورية واليمن وليبيا أصبحت مرتبطة، في كثير أو قليل، بمستقبل العلاقات بين الدول الأقطاب وممارساتها في الحرب «الباردة» المتزايدة الحماوة وانعكاساتها على حلفائهم الإقليميين المشتبكين في صراعات مديدة دخلت سنتها السادسة.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى