تقرير

الصراع بين الديمقراطية والرأسمالية صراعٌ طويل الأمد. في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، قيّدت الديمقراطية اقتصاد السوق بقوانين حماية العمالة، وأنظمة الرفاهية. لكن في السبعينات، مع عولمة الرأسمالية وتحرّرها من القيود القومية، استطاعت الرأسمالية التحرك بحرية أكبر. ولا يُمكن اليوم إنكار النفوذ الطاغي للرأسماليين على الحكومات الديمقراطية، وقدرتهم على تغيير قوانينها والضغط عليها.

لكن هذه السيطرة الرأسمالية على مجريات تستفز حراك الغالبية ممّن تقلصت أو ثبتت دخولهم الحقيقية عند سقف معيّن لوقتٍ طويل، ولم تعُد الزيادات الضئيلة في الرواتب تكفيهم. يلجأ المواطنون الذين ألحقت بهم اقتصاديات السوق النصيب الأكبر من الضرر إلى الحكومات وهو ما نتج عنه صعود الحركات والأحزاب الشعبية في أوروبا، والسياسيين أمثال دونالد ترامب وبيرني ساندرز.

في مقاله الذي نشرته جريدة «فورين آفيرز» الأميركية، يستعرض مارك بلايث سيرة الرأسمالية من خلال ثلاثة كتب نُشرت حديثاً، تلقي الضوء على ماضي الرأسمالية، وحاضرها ومستقبلها.

يروي المؤرخ الألماني يورغن كوكا قصة الرأسمالية في كتابه «الرأسمالية: تاريخٌ قصير». يرى كوكا أنّ الرأسمالية مفهوم أساسي من أجل فهم الحداثة، والأهم أنّها مجموعة من المؤسسات التي تحمي حقوق الملكية ورأس المال، وتشجّع على تقسيم الموارد من خلال الأسواق، وهي أيضاً مجموعة من المبادئ والأفكار. يقول بلايث إن تعريف كوكا المطّرد للرأسمالية مكّنه من رؤية صورها الأولية، التي نشأت في أوساط تجار بلاد ما بين النهرين، شرق المتوسط، وعلى طول طريق الحرير في قارة آسيا.

وبحلول القررن الحادي عشر، بدأ ظهور البرجوازية الرأسمالية، في شبه الجزيرة العربية والصين، ثم في أوروبا لاحقاً. أنشأ التجار مؤسسات تعاونية أدّت إلى تقسيم أكبر للمخاطر. وهو ما أدى، وفقاً لكوكا، إلى تكوين «مشاريع لها شخصياتها القانونية المستقلة»، إضافة إلى أسواق رأسمالية بدائية، وأخيراً، البنوك التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالدولة الحديثة، عن طريق إدارة الديون.

هنا بدأ عصر الاستعمار، إذ اتجه التجار ورواد المشاريع والغزاة، مدعومين من الحكومات، إلى دفع التوسع الأوروبي، الذي قام على التجارة الثلاثية: يجلب التجار الأوروبيون البضائع الجاهزة إلى أفريقيا، ويقايضونها بالعبيد، ثم يشحنون العبيد إلى قارات العالم الجديد، ليعملوا في حقول السكّر والقطن المملوكة لأوروبا. هذه العملية ساهمت في ترسيخ الرأسمالية في أوروبا أكثر منها في الشرق الأوسط والصين إذ أدّى الحجم المهول للاستثمارات المطلوبة إلى إنشاء الشركات المساهمة، وبداية عصر «الرأسمالية المالية»، وافتتاح أسواق تداول الأوراق المالية في أنتويرب وأمستردام. ومع أن الارباح التي تنعّم بها الرأسماليون الأوروبيون جاءت من سياسيات معادية لليبرالية، فإن الرأسمالية وضعت أساسات الديمقراطية نظراً إلى الثروات الطائلة التي تولّدت من ورائها، والاحتماليات التي ولّدتها مؤسّساتها الجديدة، وهو ما أدّى إلى تطور التصنيع «Industrialization» في القرن التاسع عشر، إلى الرأسمالية الإدارية، في القرن العشرين.

في سردية كوكا، تمضي الرأسمالية قدماً بشكل طبيعي، وكل مرحلة تولّد تاليتها. لكن السير تحوّل فجأة إلى الاتجاه الخاطئ في وقتٍ قريب من عام 1980. بدأت الحصة الأكبر من أرباح الشركات تأتي من القطاع المالي والبنوك بدلاً من الاستثمارات الحقيقية عمليةٌ تعرف بـ«الأمْوَلَة». الأنظمة المالية الحديثة تتكوّن، طبقاً لكوكا، من صناديق مالية أشبه بالجراد، تتغذّى على الشركات من دون مساهمة حقيقية في الاقتصاد. تزامن هذا مع فشل الحكومات، منذ ثمانينات القرن الماضي، في كبح تصاعد الاستهلاك غير المسبوق، ما أدّى إلى نمو هائل في الدينين العام والخاص في العالم المتقدّم هذا الدين الذي يمثّل للرأسمالية «مصدراً دائماً لعدم الاستقرار».

يجادل بلايث بأن كوكا لم يفسّر هذا التحوّل غير الطبيعي من وجهة نظره في مسار تطوّر الرأسمالية. ويرى أنّ الرأسمالية غير المنتجة الحالية لا تختلف كثيراً عن الأشكال السابقة التي يعتبرها كوكا منتجة. ففي الأزمة المالية الألمانية عام 2007، لم يكن السبب «صناديق الجراد»، بل بنوك تنموية تقليدية. ربّما لم تكن «الأمْوَلَة» انحرافاً عن الرأسمالية، إنما ببساطة المرحلة التالية في مسار تطوّرها الطبيعي.

يتسّق هذا مع الرؤية التي يعرضها عالم الاجتماع الألماني فولجانغ ستريك في كتابه، «كسب الوقت». فالتطوّر المعيب الحالي للرأسمالية ليس تشوّهاً، إنما نتاج مباشر للتزاوج بين الديمقراطية والرأسمالية، ما بعد الحرب العالمية. يركّز ستريك على رؤية عالم الاقتصاد البولندي مايكل كاليكي، الذي نشر مقالاً في 1943 تنبّأ فيه بالاضطراب الاقتصادي في السبعينات. جادل مايكل بأنّ التوظيف الشامل سيمكّن العمال من التنقل بحرّية من وظيفة إلى أخرى، وهو ما سيعطيهم أفضلية تسمح لهم بالضغط على أصحاب العمل لرفع الأجور بغضّ النظر عن مستويات الإنتاج، وبالتالي ستضطر الشركات إلى رفع الأسعار. ستنتج عن هذا دائرة شيطانية من التضخم تلتهم الأرباح وتقلّل الدخل الحقيقي، وتزيد الاضطرابات العمالية. في مواجهة هذا، سيلجأ الرأسماليون إلى التمرّد على نظام التوظيف الشامل، وخلق نظام هدفه الرئيس ضبط الأسواق والأسعار بغضّ النظر عن نسب البطالة.

وفقاً للتقرير، تحققت نبوءات كاليكي بشكل مذهل، بحلول السبعينات. تحرّكت الحكومات المحافظة لإضعاف القوة العمالية وتفكيك القوانين التي تصبّ في صالحها، وضغطت المؤسّسات المختلفة على الحكومات لتقليص الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة، وهو ما أدّى إلى اتّساع العجز في الموازنة. الآن وقد زالت العوائق أمام نموّ الصناعة المالية، ولجوء المستثمرين إليها، أصبح بإمكان الحكومات سدّ عجز الموازنة ورفع الإنفاق، بلا حاجة إلى زيادة الضرائب.

لكن هذا التحوّل من الضرائب إلى الديون كان له عواقبه السياسية الوخيمة، وفقاً للتقرير. فالزيادة المطّردة في الدين الحكومي سمحت للرأسماليين بالتغوّل على رغبات الشعوب في كل مكان، وذلك عن طريق رفع فائدة الديون الجديدة عند استبدالها بالقديمة وسيلة فعالة للاعتراض على أيّ سياسات لا تتماشى مع رغباتهم. بل يمكن للمستثمرين اللجوء إلى المحكمة في حالة الامتناع عن السداد، كما حدث مع الأرجنتين، أو في حال تصويت المواطنين ضدّ مصالح الدائنين، كما حدث مع اليونان.

التحوّل من الضرائب إلى الديون أكسب الرأسمالية بعض الوقت، مستعيداً الأرباح ومروّضاً التضخم، وبدا وكأنه يحقق الرخاء للجميع. لكن هذا كان وهماً، فالأرباح الضخمة المتولّدة ذهب القسط الأكبر منها إلى الأغنياء. في الولايات المتّحدة، تضاعف نصيب الواحدة في المئة الأغنى من الدخل القومي في العقود الثلاثة الأخيرة، بينما بقيت أجور 60 في المئة ثابتة.

هذا الوهم حطّمته الأزمة المالية في 2008. وفقاً للتقرير، انفجر الدين العام إذ تدخلت الحكومات لإنقاذ المؤسسات المالية، ولم تُجدِ إجراءات التقشف التي حاولت تقليص هذا الدين إلا في مضاعفة خسائر غالبية المواطنين. وتستمر سيادة رأس المال على الديمقراطية، في إيطاليا واليونان وغيرها من البلاد. ستريك يرى أنّ تصاعد الإنفاق العام ليس المشكلة الكبرى، على عكس ما يعتقده كوكا، إنما المشكلة في انخفاض عوائد الضرائب، وتدخّلات الإنقاذ التي رفعت الدين العام إلى أعلى مستوياته.

أمّا الصحافي البريطاني بول ميسون، فيرى في كتابه «ما بعد الرأسمالية»، أن الوضع الحالي يمثّل آخر مراحل الرأسمالية، التي يعتبرها نظاماً معقّداً متكيّفاً، وصل إلى أقصى حدود قدرته على التكيّف. بدأ الأمر في الثمانينات، عندما استولت النيوليبرالية على الرأسمالية، فالنيوليبرالية لا تعرف حدوداً لتسليع العالم، وفقاً للتقرير.

يقتبس ميسون عن نيكولاي كوندراتييف، عالم الاقتصاد السوفياتي أنّ الرأسمالية تدور في دورات كلّ دورة منها مدّتها 50 سنة. في أسفل الدورة، تتوقف نماذج الأعمال والتكنولوجيات القديمة عن العمل، ويتوجب الدفع بتكنولوجيات جديدة لفتح الأسواق، لتدور الدائرة مرة أخرى، وهو ما يذكّر بمبدأ «التدمير الخلّاق»، للاقتصادي جوزف شومبيتر.

يتتبع ميسون الدورات المتعاقبة: التحسّن الاقتصادي مع تطويع طاقة البخار، مروراً بالكساد في عشرينات القرن التاسع عشر، وانتهاءً بالثورات التي جعلت من برجوازيّي أوروبا جزءاً من التاريخ. ثمّ انتشار السكك الحديدية والتلغراف وعمليات الشحن، ليرتفع الاقتصاد مرّة أخرى، ويأتي كساد آخر في سبعينات القرن التاسع عشر. ثمّ جاءت الكهرباء لتغذّي صعوداً آخر، ثمّ أتى الكساد العظيم، ومن بعده الحرب العالمية الثانية. بعدئذ جاءت الفتوحات الإلكترونية والتصنيعية، والانتصار العمّالي النسبي لتبدأ دورة رابعة. لكن هذه الدورة لم تنتهِ بكسادٍ عظيم.

لماذا لم يأتِ الكساد العظيم هذه المرّة؟

إن تجاهلنا الركود الاقتصادي في 2008، يمكن تقسيم أسباب تأخر حدوث الكساد في هذه الدورة من دورات الرأسمالية، كما يراها ميسون إلى أسباب تقليدية وأخرى مفاجئة. التقليدية تتمثل في الآتي:

أولاً، استبدال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الغطاء الورقي بالغطاء الذهبي في 1971، وهو ما أزال الكثير من العوائق أمام سدّ عجز الموازنة، والتي كان الغطاء الذهبي يفرضها.

ثانياً، أمْوَلَة اقتصاد الدول المتقدّمة، وهو ما أخفى حقيقة جمود الدخول، إذ استبدل بزيادات الأجور نظام الائتمان.

ثالثاً، دخول الدول الآسيوية إلى ساحة الإنتاج مكّن الولايات المتّحدة من الاستمرار في رفع معدّلات الإنتاج.

وأخيراً، التقدّم الهائل في تكنولوجيا المعلومات قوّى رأس المال وأضعف القوى العاملة، وساهم في نشر الممارسات النيوليبرالية في أنحاء العالم.

هذه الأسباب مألوفة ولا جديد فيها، لكن الجزء غير التقليدي من تفسير ميسون يشرح كيف استطاعت النيوليبرالية بنجاح الحفاظ على حصة الرأسماليين من المكاسب. يستعير ميسون من ماركس وكاليكي فكرة أن الأرباح المتوسطة في أيّ سوق ستنخفض بسبب التنافسية من جهة وتدفق رأس المال إلى الأسواق الجديدة من جهة أخرى، وهو ما سيقلل عوائد الاستثمار. وهذا يدفع الرأسماليين إلى إجبار العمال على زيادة العمل، وتسريع محاولاتهم لاستبدال العمال بالآلات.

في الماضي كانت هذه المحاولات لاستعادة الأرباح تفشل، لأن العمال كانوا يجدون طريقهم إلى المقاومة، مثل الاتحادات العمالية وأنظمة الرفاهية، وكان الرأسماليون مجبرين على قبول هذا، والعمل على زيادة إنتاجية العمال، ليخرج الجميع رابحين.

لكن النيوليبرالية أعطت الرأسماليين سلاحاً ناجعاً في مواجهة العمال. لم يعد بإمكان العمال المقاومة لأن رأس المال يمكنه أن يتحرّك، ومعه الوظائف، من مكان إلى آخر بمنتهى السلاسة. إنّها «هزيمة العمالة المنظمة، وصعود تكنولوجيا المعلومات واكتشاف قدرة القوى الكبرى على خلق المال من لا شيء لفترة طويلة»، هي التي أبعدت شبح الكساد عن الاقتصاد العالمي، وفقاً لميسون. لكنّ كل هذا لم يفعل شيئاً سوى تأجيل انهيار الرأسمالية المحتوم. كارل ماركس كان يرى أن العمالة المنظمة ستقف في وجه النظام وتسقطه، أمّا ميسون فيراهن على تكنولوجيا المعلومات التي ستدمّره من الداخل. فالسلع الرقمية، مثل ملفّات الموسيقى وغيرها، لا ينطبق عليها مبدأ العرض والطلب، ويمكن نسخها مجّاناً إلى ما لا نهاية. الحلّ الوحيد هو فرض احتكار حقوق الملكية لهذا نرى شركتَي «آبل» و«سامسونغ» تقاضيان بعضهما طوال الوقت، ولهذا تبقى الأدوية باهظة الثمن للغاية.

يتفاءل ميسون في خصوص ما سيستبدل الدوافع الربحية، ويضرب مثلاً بـ«ويكيبديا» وبشركات الاقتصاد التشاركي مثل شركة «أوبر». يصف ميسون الصراع الآن بين من يريدون الحفاظ على حقوق الملكية، ومن يريدون تدميرها بِاسم الديمقراطية. هناك تناقضٌ في الرأسمالية الحديثة بين احتمالية توافر سلع ينتجها المجتمع، وبين نظام من الاحتكاريات والبنوك والحكومات التي تصارع من أجل الحفاظ على تحكمها في القوة والمعلومات.

ربّما تنجح طبيعة الرأسمالية القادرة على التكيّف في تخطّي كلّ هذا. لكن الرصاصة القاتلة التي لن تستطيع على الأرجح تفاديها تتمثّل بالتغيّر المناخي. لا يمكن للعالم استهلاك 60 80 في المئة من مخزون الوقود الحفري المعروف من دون أن يتسبب هذا في احترار عالمي كارثي. لكن النظام الرأسمالي سيفعل هذا بالضبط. وكل الحلول السحرية التي هلّل لها الرأسماليون لها قبلاً، ومن ضمنها الهندسة الجيولوجية، لم تنجح في حلّ المشكلة. أضف إلى هذا ارتفاع المتوسط العمري في الدول المتقدّمة، وما بين الشباب العاطلين فاقدي الوجهة في الدول النامية.

غالباً ما يؤكد النيوليبراليون بسذاجة أن الرأسمالية ستجد تكنولوجيا إعجازية في اللحظة الأخيرة، لكن ميسون يراهن في إنقاذ العالم على التغييرات الصغيرة في هيكل حقوق الملكية. ربّما لا يكون ذلك كافياً، وفقاً للتقرير، لكن ميسون محقّ في تشبّثه. الرأسمالية، في صورتها الحالية، وصلت إلى طريق مسدود.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى