غزّة: المقاومة انتصرت و«إسرائيل» أذعنت… ما التداعيات؟

د. أمين محمد حطيط

شنّت «إسرائيل» حربها على غزّة في سياق خطة صهيو ـ أميركية شاملة تستهدف محور المقاومة برمّته. خطة أوكل بتنفيذها «داعش» في الشمال و«إسرائيل» في الجنوب. وتصوّرت «إسرائيل» أنّ اللحظة الاقليمية والدولية مواتية للإجهاز على المقاومة الفلسطينية في غزّة، ثم جعل ركامها قاعدة تنطلق منها للإجهاز على المقاومة في لبنان التي تتصوّر «إسرائيل» أنّ مساهمتها في الحرب الدفاعية في سورية، معطوفة على انتظار انتصار «داعش» في عرسال اللبنانية، سيجعل من الحرب على حزب الله أمراً مضمون النتائج بعد وضعه بين نارين «إسرائيلية» في الجنوب و«داعشية» في الشمال… ولكن ما الذي حصل؟

قبل أن نعرض للانتصار التاريخي الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية في غزّة، لا بدّ من التوقف عند ما آلت الامور إليه في لبنان عقب طعنة «داعش» لعرسال، إذ نفّذ خطّته الإرهابية بتواطؤ مع جهات لبنانية. خطة كانت ترمي إلى السيطرة على منطقة تشكل خمس مساحة لبنان، وتقع شمال خط عرسال ـ طرابلس ومعها عكار، وهي مساحة رأى فيها تنظيم «داعش» أنها مناسبة له لإقامة إمارة على الأراضي اللبنانية، تؤمن له منفذاً بحرياً على المتوسط، وهو أمر أصبح يقيناً على ضوء اعترافات أحد الإرهابيين المقبوض عليهم لدى الاجهزة الامنية اللبنانية.

لكن في عرسال جاءت النتائج الميدانية خلافاً لما كانت الخطة الإرهابية ترمي إليه، واستطاعت البيئية المحيطة بعرسال وعبر قواها الشعبية والأهلية المنظّمة أو غير المنضوية تحت عناوين معروفة، استطاعت أن تثبّت الوضع لمدة كانت كافية للجيش اللبناني للقيام بنقل القوى المناسبة، واحتواء الموقف ثم تطويره إلى ما صار يعرف باستعادة المواقع ومحاصرة الإرهابيين داخل عرسال. وهو عمل يعتبر بحدّ ذاته إنجازاً لا ينازع أحد في تصنيفه في خانة الاعمال العسكرية الناجحة ميدانياً. لكن وللاسف حُجّم هذا الإنجاز على يد بعض من هم في السلطة في لبنان، الذين ارتضوا عملياً محاورة الإرهابيين على رغم القرار الرسمي العلنيّ المعاكس، وإعطاءهم ما ينقذهم من قبضة الجيش. ومع هذا نقول إنّ «طعنة عرسال» أخفقت عسكرياً وخسر الإرهاب بهدها فرصة الوصول إلى البحر وإقامة الإمارة ومحاصرة المقاومة من الشمال.

أمّا غزّة، فكان فيها وعلى مدار 50 يوماً، حرب معقدة تقلّبت في وجوه متعدّدة شاءتها «إسرائيل» وجرّبت فيها كلّ الخطط وكلّ أنواع الحروب والقتال. ولم تفلح في تحقيق ما أرادت. حرب بدأتها بالنار التدميرية للتركيع، فدمّرت البناء ولم تدمّر الإرادة الفلسطنية. وما حصل العكس تماماً، إذ إنّ نيران المقاومة زعزعت الكيان النفسي والمعنوي لدى العدو في مستوياته السياسية والعسكرية، والأخطر الاجتماعية، وعندما انتقلت «إسرائيل» إلى البرّ، صعقتها المقاومة بقتال «اصمُد والتحِم»، وقتال «فوق الارض وتحتها» في الانفاق والخنادق. وأجبرت «إسرائيل» على إغلاق كتاب التهديد بالحرب البرية أو تنفيذها أصلاً، ثم كانت حرب «الاستنزاف» التي انفلت فيها الوحش الإرهابي الصهيوني إلى المدى الأقصى منقضّاً على البناء والعمران في غزّة. فصمدت المقاومة واستمرت في الميدان تمطر العدو بزخّات صواريخها التي أتبعتها بقذائف المدفعية والهاون، ما فاقم المأزق «الإسرائيلي» وزاد من الانهيار المعنوي والنفسي لديه.

حدّدت «إسرائيل» أهدافاً لعدوانها في كل مرحلة من مراحله وللحرب كلّها، لكنها لم تستطع أن تحقّق شيئاً من هذه الأهداف. وصحيح أنّ «إسرائيل» لم تفصح علناً عن تلك الأهداف، لكن المتابع يعرف أنّها قصدت من حربها اجتثاث المقاومة من غزّة، وإجبار القطاع على التنكّر لهذه المقاومة، وحمله على إلقاء السلاح، ما يمكّن «إسرائيل» من صوغ غزّة على نموذج الضفة الغربية، وجعلها ميداناً للتنسيق الأمني الذي يثخن الجسم الفلسطيني بالجراح العميقة.

في المقابل، رفضت المقاومة الفلسطينية وبفصائلها كافة، وفي طليعتها «حماس» و«الجهاد الاسلامي» ما تريده «إسرائيل». ولم تكتفِ بالرفض، بل ردّت بشيء لم تألف «إسرائيل» سماعه من الفلسطينيين. ردّت المقاومة بالقول: «بدأتم الحرب بقراركم، لكن الحرب لن تقف إلّا بقرارنا ووفقاً لشروطنا». قول أذهل «إسرائيل» وأذهل كلّ المنظومة الاقليمية والدولية التي تدعمها في عدوانها، والتي كانت تنتظر الأيام التي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين حتى تسمع نعي المقاومة الفلسطينية في غزّة من قبل «إسرائيل». إنّ عبارة «شروط المقاومة» كانت فوق ما تستطيع «إسرائيل» احتمال سماعه، فكيف يمكن قبوله أو حتّى النقاش بشأنه.

وبعد خمسين يوماً من المواجهة، حصل التفاهم أو التوافق أو الاتفاق ـ سمّه ما شئت ـ حصل ما أوقف النار، وفكّ الحصار، وفتح المعابر وطوى صفحة السنوات السبع العجاف التي وُضع الفلسطنييون أثناءها في معتقل أو سجن كبير اسمه غزّة، وقف على بابه حرّاس صهاينة وعرب يمنعون فلسطنيي غزّة من العيش بحرّية أو الوصول إلى احتياجاتهم أو التنقل من القطاع وإليه كباقي البشر في العالم. أي باختصار، حصل وقف إطلاق النار بشروط المقاومة ولم تحقق «إسرائيل» شيئاً من أهدافها. ما يعني وبكل بساطة هزيمة المعتدي المهاجِم لأنّه لم يحقّق أهداف هجومه، ونصر المعتدى عليه المدافِع لأنّه منع المعتدي من تحقيق أهدافه. وأكثر من ذلك، حمله على الإذعان لما سُمّي «شروط المقاومة» وهي في الحقيقة حقوق الشعب في غزّة التي عملت المقاومة على تحقيقها ونجحت.

والآن، وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه من انتصار للمقاومة وإخفاق لـ«إسرائيل»، نجد من المفيد أن نتوقف عند تداعيات هذه النتائج، ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، بل على صعيد محور المقاومة برمّته الذي يُعتبر الجهة المعنية بشكل أساسيّ وجوهري بهذه النتائج، نظراً إلى استراتيجته في المواجهة، وإلى التهديدات التي ما فتئت «إسرائيل» والجبهة الدولية التي تنتمي إليها، تطلقها ضدّ هذا المحور.

في هذا الإطار، نرى أن نؤكّد بدايةً على الانتصار الاستراتيجي لمحور المقاومة. انتصار هو من طبيعة انتصار تموز/ آب 2006 في لبنان، وإذ بلعنة تموز/ آب تتكرّر في نزولها على «إسرائيل» خلال ثماني سنوات مرّتين. لعنة لا تنحصر آثارها السلبية على «إسرائيل» وحدها، بل تمتد لتشمل، وإن بدرجات متفاوتة، كل من وقف إلى جانبها ضدّ المقاومة، أو كلّ من سكت عن عدوانها سكوتاً يشجع على هذا العداون. أمّا في التفاصيل، فنجد أنّ لنتائج هذه المواجهة من التداعيات، وإضافة إلى ما كنّا ذكرناه في مواقف سابقة، ما يمكن ذكره كالتالي:

1 ـ غرقت «إسرائيل» بشكل أكبر في «دائرة عجز القوة» التي أدخلتها فيها المقاومة في لبنان، ولم يعد عاقل يصدّق أنّ «إسرائيل» تملك الجيش القادر على فعل أيّ أمر تقرّره حكومته.

2 ـ صار الحديث عن اجتثاث المقاومة أو نزع سلاحها أو تدجينها ضرباً من الخيال لا يقاربه إلا سطحيّ أبله أو غبيّ مجنون. وهذا الأمر لن ينحصر في النطاق الفلسطيني، بل يشمل كلّ مقاومة منتظمة في محور المقاومة ضدّ «إسرائيل»، وهذا من شأنه أن يرعب من يحتضن «إسرائيل» ويعوّل على وظيفتها خدمةً لمصالحه.

3 ـ ستضطرّ «إسرائيل» لمناقشة جدّية لجدوى الحرب البرّية ضدّ مقاومة تتقن القتال فوق الأرض وفي باطنها عبر الأنفاق، وتعمل بمبدأ «اصمُد والتحِم» الذي ابتدعه حزب الله في لبنان. وسيشكّل هذا الأمر انقلاباً في مسار العقيدة العسكرية «الإسرائيلية» سواء كان القرار إقلاعاً عن الحرب البرية أو تقييدَ العمل البرّي وتحجيم حالات الدخول فيه.

4 ـ تأكّد مجدّداً عقم نظرية «المناعة الاجتماعية» التي عملت «إسرائيل» على نشرها في الجسم المجمتعي الصهيوني. وتأكّد مرّةً أخرى أنّ كلّ التدابير التي هدفت إلى إقامة مجتمع يعمل تحت الضغط الناري باءت بالفشل، بعد أن تعطّلت مرافق عامة وخاصة على نصف أراضي فلسطين المحتلة، وأغلقت مطارات وتعطّلت رحلات جوّية، ولم تنفع هيكلة الجبهة الداخلية أو القبة الفولاذية أو مناورات الكيان التي نفّذت لسبع مرّات متتالية، لم تُجدِ هذه الأمور نفعاً في تثبيت معنويات «الإسرائيليين» أو تحصينهم نفسياً في مواجهة الصواريخ المنطلقة من غزّة.

5 ـ ظهر أنّ «إسرائيل» لا تقوى على تحمّل أعباء حرب استنزافٍ طويلة، وفي ذلك خسارة ورقة ثمينة كانت «إسرائيل» تهدّد بها دائماً. وهنا أضافت المقاومة في غزّة إلى المشهد ما كانت المقاومة في لبنان قد أرسته من معادلة توازن الردع وحرمان «إسرائيل» من قرارٍ حرّ بالذهاب إلى الحرب أو وقفها.

6 ـ وأخيراً، لا بدّ أن نسجّل التصدّع السياسيّ الذي سبّبته الحرب في الكيان الصهيوني. تصدّع يشكّل انقلاباً على ما هو مألوف في سلوكهم، إذ إنّ الحرب عادةً توحّدهم، أما حرب غزّة فجاءت كما حرب لبنان الثانية 2006، لتشتّت كلمتهم وتفتح الباب على مصراعيه أمام لجان التحقيق وإسقاط الحكومة، وصولاً إلى احتمال الذهاب إلى الانتخابات المبكرة.

وبناءً على هذا نؤكّد أنّ المقاومة في غزّة صنعت للأمّة نصراً من طبيعة استراتيجية قابلة للبناء عليها. وجاء هذا النصر ليصبّ في مجرى إنجازات محور المقاومة برمّته، وليؤكّد أنّ حرباً تقوم بها «إسرائيل» في المستقبل المنظور ضدّ أيّ مكوّن من مكوّنات هذا المحور، فكرة غير واقعية، وبالتالي سُحبت من يد «إسرائيل» ورقة ضغط لطالما هدّدت بها، وراحت تفقدها شيئاً فشيئاً منذ عام 2006.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى