النصّ الأبعد استحالة على النقد التفكيكيّ
النمسا ـ طلال مرتضى
ليس في الدراما وحدها نستطيع القبض على كلّ حواس المتلقّي، والتي تقوم على سيناريو يحوّل النصّ المكتوب إلى حركيّ، بمقدرة مجموعة من ذوي الخبرة، أو ما يسمّى صنّاع الصورة والصوت.
أقول هناك نصّ خام يضاهي كلّ هذا، وهو نصّ رائيّ يستولي على القارئ، ويفعل ـ دونما عناء ـ ما يفعله النصّ المحمّل على الدراما. وهو النصّ المشغول بأصابع متمرّسة تعرف كيف ومتى تدهم الحواس وتلجمها.
النمسوي ستيفان زفايج في أقصوصته «لاعب الشطرنج» التي ترجمها إلى العربية يحيى حقّي، يأخذنا إلى عوالم متشعّبة، يتلمّس القارئ منذ سطرها الأوّل، أنّ الكاتب يخاطب حواسه بانكشاف تام. فهو القارئ أوّلاً ـ الكاتب ـ عوالمَ النفس البشرية، والقابض بكلتا ثيمات الحبر، بنزوعها ونزوحها شغفها وخوائها ، متوكّئاً على غواية السرد المكينة لشل فكر متلقّيه وجعله تابعاً. جلّ همه الوقوف على نواصي الخاتمة، والتي عمد الكاتب زفايج إلى عدم تسليمها، بل جهد بين الفينة والفينة على التلويح بها، وهي فاعلية قلّما استعملها راوٍ آخر، أي ترك خطوط إيهامية، إيحائية، متفلّتة بقصديتها، عمّدها زفايج في كلّ مرويّاته السابقات ـ إسقاطاً بمقولة «شعرة معاوية» ـ تساعد هذه الخطوط الواهية ـ طبياً ـ في رفع نسبة الأدرينالين adrenaline في جسم القارئ الأسير، ليعمل هذا الهرمون على زيادة نبض قلبه وانقباض أوعيته الدموية، حيث يؤدّي ذلك بالمجمل إلى تحضير الجسم لحالات الكرّ والفرّ، بعد الولوج في علائق الحكاية المروية والتي بدأت على متن سفينة أبحرت توّاً من الميناء الفرنسي متجهة في رحلة قد تدوم لأكثر من عشرة أيام إلى بيونس أيرس، حيث المصادفة جمعت الركاب ببطل عالميّ في لعبة الشطرنج، تورد الحكايات أنه رجل فاشل في كلّ شيء إلا في هذه اللعبة، التي تعتمد أولاً وأخيراً على ذكاء اللاعب.
وهذا ما حدا بأحد الركاب المهتمين بدراسة مثل هذه الحالات إلى إطلاق كمٍّ من الأسئلة المباحة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل يوجد في دماغ الإنسان جيب أو فتق ما، يجعل من المرء محترفاً في شيء على حساب كلّ شيء؟
افتعالاً… باستجرار البطل إلى لعبة تحدّي بأن يلعب ضدّ الجميع مقابل رهان، واتفق معهم بأن يترك لهم بين كلّ نقلة ونقلة مدة عشرة دقائق يتركهم للتشاور حول نقل حجرهم، حيث يمنى الجمع بخسارةٍ سريعة أمام البطل، وهو ما أشعل حماستهم أن يجرّبوا حظهم مرّة أخرى انتقاماً، ويعاودون الكرّة، وبينما هم يتفقون لنقل حجر، يتدخل زائر قريب، يرجوهم ألا يفعلوا ذلك، ويعلمهم بخسارتهم التالية في حال حصل، وفي أيّ حال هم خاسرون. فاقترح لهم نقلة أخرى تجنّبهم الخسارة وتخرجهم من الورطة متعادلين، وهذا حلم بالنسبة إليهم. وبالفعل يتم النقل حسبما أراد ليأتي البطل ويرى النقلة العجيبة، ثم يقلب الطاولة معلناً خسارته، لكنه أيقن أن دخيلاً ما فعل هذا.
رصد زفايج الأنفاس ودوّنها كما هي، الخسارة، الربح، القيظ، الشماتة، بمقدرة جعلت من القارئ رائياً، لدرجة إلى أنه ـ أي الأخير ـ كان قادراً على الاحتجاج من خارج النصّ، من خلال الفضول والأسئلة. من يا ترى ذلك الدخيل الذي هزم البطل، أنه يجرّنا نحو أماكن أخرى نجد فيها أبطالاً يقهرون الأبطال وهم مغمورون، يا ترى ما حكايتهم، ما.. وما؟
ليصار البحث عن البطل الجديد ومعرفة سرّه، وبعد لقاءٍ منفرد مع الوسيط يبوح بكلّ ما يعرف، وهو الذي كان معتقلاً لدى السلطات النازية بتهمة التخابر مع ملك النمسا آنذاك، يستطيع بعد شهور أن يسرق كتيّباً من جيب أحدهم في غرفة التحقيق أملاً بكسر عزلة الزنزانة، ليفاجَأ بأن الكتيّب ليس رواية أو شعراً إنما هو لتعليم الشطرنج وهو مبهم الرموز، وبعد قراءات متتالية استطاع فكّ شيفراته، وبدأ بتطوير اللعبة.
وهنا يتدخّل زفايج مرّة ثانية ليلعب على وتر القارئ، وذلك باعتراف الرجل الذي استغنى عن الرقعة، وصار يلعب في رأسه مع نفسه، وكان يطيل أمد اللعبة بالاستعانة بالكتاب، عندما يشعر بأنه سوف يفوز على أناه، وبعد فترة شعر بالملل لتكرار اللعبة وهنا كانت الحكاية في أوجها عندما خرج من اللعبة مثل حكم، ليترك أناه تلعب مع دماغه وبينما هو وقف مراقب، وتلك مرحلة جنون اللعبة، والتي حدت به بأن يضرب أحد العسكر عندما قاطع المبارة بين دماغه وبين ذاته، وربّ ضارة نافعة أودت به إلى مستشفى المجانين، ليخرج منها بمساعدة طبيب بعدما زال خطره وأخذت ألمانيا النازية مملكة النمسا.
ثم ينقلنا نحو افتعال مبارة بينه وبين البطل العالمي، وهنا ينسلّ زفايج ليترك قارئه صريع الحالة والترقب.
لعب زفايج بمهارة فائقة، على الحالة الحسّية للحضور المتابعين، متمكّناً من رصد أنفاسهم، وحركات عيونهم، ثم استطاع تدوين حساسية خسارتهم وفوزهم، لا بقلم كاتب، إنما بمبضع طبيب مشرّح، هذه الفعالية جعلت من نصّ «لاعب الشطرنج» يرتقي إلى مصافي المرويّات التي تحتاج إلى طبيب نفسيّ، أكثر من ناقد يقوم بتفكيك النصوص.
ستيفان زفايج، شخصية إشكالية كلّما دخلت في عوالمها، خسرت الكثير من عوالمك، لا يمكنك كقارئ أن تترك نصّه مفتوحاً أثناء القراءة، ولا يمكنك أن تعيد قراءته مرّة أخرى لأنك ستفقد متعتك بالمطلق. هو مثل صعقة كهربائية، إمّا أن تخلص إلى احتشاء فجائيّ سكتة قلبية أو تُقتَل بالصعق.