العرب وازدواجية المعايير!

العميد هيثم حسون

عندما نتحدّث عن ازدواجيةِ المعاييرِ فإننا نقصدُ نظرةَ إنسانٍ أو دولةٍ لحدثين متشابهين في المقدماتِ والمسارِ والنتيجة، ويقدم تقييماً متناقضاً أيّ التقييم ومعه المصلحة الذاتية لأحداثٍ متشابهة.

من خلالِ هذا المفهوم فإنَّ أكثر الدول التي تشتكي من سياسة المعايير المزدوجة هي دولُ العالمِ الثالث بشكلٍ عام والدول العربيةِ والإسلاميةِ بشكلٍ خاص، لأنَّ أصحابَ النفوذ والسلطة في المنظماتِ الدوليةِ هم الدول القوية التي تُسِّخر تلك المنظمات لصالحها.

وبالنسبة للعرب فلا يكادُ يظهرُ مسؤول عربي في مناسبةٍ أو بدونِ مناسبةٍ إلا ويتحدث عن ازدواجيةِ المعايير في تعاملِ الدول القوية مع قضايانا، ومن حيث المبدأ هذا الكلام صحيح.

ولكن من يستمع إليه يعتقدُ للوهلةِ الأولى أنَّ لدينا مقاييس ليزرية نتعامل بها مع قضايانا وقضايا غيرنا، وهنا لا بُدَّ من التساؤل هل نتعامل نحن مع قضايا الآخرين بنفسِ المعايير التي تحكم رؤيتنا لقضايانا.

وهنا سأورد مثالاً من التاريخ لمسألتين متشابهتين تكاد مؤشراتهما أن تصلا إلى حدِّ التطابقِ وهو الغزو الصليبي و الفتوحات الاسلامية ولنبدأ من العنوان غزو صليبي و فتح إسلامي …

كيف نُطلق التسميات على أفعال حصلت من غيرنا ومنا؟ هل نحن كنا فاتحين أم غزاة؟ وهل كان الأوروبيون غُزاة أم فاتحين؟ ولدراسة هذه المسألة يجب دراسة عناوينها

– الأوروبيون الصليبيون حضروا عبر آلاف الكيلومترات لاحتلالِ مدنٍ وبلدانٍ في منطقتنا في فلسطين وسورية ولبنان وإقامة إمارات وممالك مسيحية.

ـ والعرب المسلمون ابحروا آلاف الكيلومترات للوصول إلى إسبانيا وشواطئ فرنسا واحتلوا مدناً وبلداناً لإقامة إمارات وخلافةٍ إسلامية.

اذاً الهدفُ واحدٌ وهو ذريعة نشرِ الدين الذي يحمله كلا الطرفين في أرض الآخر، الإسلام في أوروبا للفاتحين والمسيحية في الشرقِ للغزاة.

ـ المضمون هو احتلال أرض الغير وإقامة سلطة سياسية تخضع لهؤلاء الغُزاة بكلِّ مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بطبيعة الحال غريبة عند أهل البلد.

ـ القادةُ العسكريون والسياسيون والمنظرون الحدثين هم رجال الدين المسلحين بأوامرٍ إلهيةٍ لنشرِ هذا الدين وهدايةِ الضالين من الطرف الآخر، ويدعون امتلاكهم مفاتيح الجنة وجهنم ويمارسون كلّ رذالاتهم باسم الذين يدّعون الوصاية عليه.

ـ هدف السُلطة الجديدة للفاتحين والغُزاة هو سَرِقةُ مواردُ الشعبِ في تلك البلدان واستخدامها مع أهلها في حروبهم المقدسة.

ـ الفاتحون والغزاة دخلوا تلك البلاد بالقوةِ وحدّ السيف وأمروا بتوزيع السبايا والغلمان على المنتصرين، وفرضوا الجزيَّة والضرائب وصادروا الأموال المنقولة وغير المنقولة، ووضعوا رؤوس القادة المهزومين على رؤوس الأسنة والرماح، وزاد الفاتحين الغزاة شذوذهم وجوعهم الجنسي وفي المنطق من طلب منا أن نفتح بِلادهم ومن طلب منهم أن يغزوا بلادنا ؟

اعتقاداً من الفاتحين والغزاة أنهم وحلفاؤهم باقون مدى العصور في المناطقِ التي وصلوا إليها، فقد بدأت مشاريع العمران التي اعتمدت البذخ والأبّهة في بناءِ قصورٍ للأمراء والملوك ودورِ العبادةِ فيها، وكلّ ما يوثق حياةً هانئةً لهم و سرِهم وحكوماتهم في ظلّ فقر وعوز تعانيه تلك الشعوب وسياسة التجهيل، كي يبقوا خدماً لمشاريعهم التي تَهدف لبناءِ إمارات وممالك أبدية لهؤلاء القادة…

ومن هنا جاء الحديث عن الآثار العظيمة التي تركها الفاتحون في إسبانيا والغزاة الصليبيون في المشرق، وهي في الحقيقة لا تتعدّى تلك القصور التي بُنيت للملوك والأمراء وحاشيتهم والمقرّبون منهم، وكما هي آثارنا هناك شامخة وآثارهم هنا صامدة.

حتى النهاية كانت متشابهة، فالفاتحون في إسبانيا تنازع الأمراء واختلفوا واقتتلوا فسقطت مماليكهم وإماراتهم، وأبيدت عائلاتهم وقتل من أسلم أو نُكِّل به، وسحلوا في الشوارعِ ولم يبقَ من تلك الإمارات إلا شواهد عمرانية وأسماءً حُرفت لتسهيلِ لفظها.

ولم تكن نهاية الغزاة أحسنُ حالاً فقد هزموا عسكرياً وقتل أفرادهم، وما اختلف فقط هو التعامل مع المسيحيين لأنهم أهل البلاد والسابقون في الإيمان والتوحيد وبقيت آثار ممالكهم وإماراتهم أيضاً كشواهدٍ عمرانية ليس إلا.

أما الكذبة السمجة عن الحضارة التي بناها أجدادنا في أوروبا، فنرى أنّ الفاتحين لم يبنوا حضارةً هناك وهم غير مؤهّلين لذلك، ولو كانوا قادرين لبنَّوا هذه الحضارة في بلادهم..

كذلك الحال فالصليبيون الغُزاة القادمون من ثقافةِ العصور الوسطى لم يبنَّوا حضارة في بلدانهم ولم يأتوا ديارنا لبناء حضارة لا يمتلكون أسسها.

ونعود بعد هذا العرضِ المختصر لحالةٍ واحدةٍ تُعبِّر عن رؤيتنا للمعايير وتقييمنا الريختري لهذين الحدثين المتشابهين حتى التطابق، فنسمّي غزونا فتحاً ونسمّي فتحهم غزواً ونخلق ونؤلف كلّ المبرّرات التي لا ترقى إلى حافةِ المنطق.

وبعد ذلك نتباكى ونشتكي ظلم الآخرين وتعاملهم معنا بمعاييرٍ مزدوجة…!

هل نحن كنا في يومٍ من الأيامِ ننظر بواقعيةٍ ومنطقيةٍ للأحداثِ التي كنا أصحاب اليد العليا فيها لنطالب غيرنا الاقتداء بأفعالنا.

هل سيأتي في ذلك اليوم الذي نتصالح فيه مع ذاتنا ونعترف بأننا ننتمي إلى أمةٍ مارست الاحتلال وأسمته فتحاً، ومارست القهر وأسمته تربيةً كما يمارس عليها اليوم الطغيان والتدمير والاحتلال ويسمّى نشراً للحرية وتعليماً للديمقراطية؟

هل سيأتي ذلك اليوم الذي نُعيد فيهِ كتابةَ تاريخنا، ونعطي كلّ ذي حقٍ حقه ونطلق على كلّ مسمّى اسمه الحقيقي وليس الذي نريده، بحيث لا يعود هذا التاريخ حاضناً وقاعدة فكرية لبناءِ أجيالٍ من الوهابيةِ والقاعدة و»داعش»…؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى