انتصار 14 آب.. قيامة أمة تستحق

هاني الحلبي

عشر سنوات يثبّت نفسَه انتصارُ المقاومة ضد العدو اليهودي فيؤسس قواعد عصر جديد كليّة عما سبقه.

انتصارٌ فارقٌ، فمن نافل القول إن ما بعد 14 آب 2006 ليس أبداً كما قبله.

النظرة إلى الذات، السياسة، الأخلاق، العلاقات الاجتماعية، الأبحاث السياسية والاستراتيجية، الشعر، اللغة، التربية، الأسرة، العقائد العسكرية، التخطيط، الأمن، الفن، الصحافة والإعلام المرئي والمسموع.. وغيرها.. ميادين التحول الجذري لمفاعيل الانتصار.

وهو فارق، لأنه أيضاً فرّق بيننا. كالعاصفة التي تفصل نوعياً الزؤان عن القمح الناضج، فتكشف الغثّ من السمين، فلا يهبط في الغربال إلا الوازن بينما الهشّ يتطاير..

ككلّ تحدٍّ يفرض على مَن يستهدفهم واجبَ اتخاذ موقف منه واستجابة حاسمة:

هل تخضع، هل تستسلم، وتضع رأسك بين قطعان المستسلمين المتلهّفين لتقبيل قفا الطاغية أو المحتل أو المستكبر المستقوي بجبروته؟

أم ترفض، ولا تخنع، بل تستنفر كل ما فيك، بل كل ما فينا من حق، وخير، وجمال، وقوة يمكنها تغيير مجرى التاريخ، مستنداً إلى هذه الذخيرة العظيمة التي رفضت الناسوت، وتحرّرت من الطاغوت، ولم تتخذ من «الكهنوت» إماماً وقائداً وشرعاً، بل بقي العقل هو شرعها الأعلى، به تحسم وبه تقرّر بلا قياس أو استحسان شكلي؟

هذا الاستمداد التاريخي لمقاومة سلبِنا هويتَنا وذاتنا ومعنانا وقيمتنا ودورنا في هذا العالم، كثيرون جلّوا فيها قديماً وحديثاً، برأينا منهم: الفيلسوف لوقيان السميساطي، صاحب كتاب فلسفات للبيع، فنّد فيه الفلسفات الإغريقية السائدة بقوة حينذاك، بينما هي حتى اليوم مصادر أساسياة للتفكير الفلسفي الأكاديمي. الإمام الأوزاعي وقسطا بن لوقا كفقيهين ومشرّعين قانونيين ومفكرين وثائرين. عبد الرحمن الكواكبي المؤسس اتجاهاً فقهياً مخالفاً للسائد في عصره ومركًزاً على نقد الاستبداد الحليف للمتواطئين من رجال الدين، ومات اغتيالاً. يوسف العظمة الذي رفض خنوع الملك فيصل وتسليمه ملكاً لم يقاتل هو في سبيله إلا بل وحدهم السوريون قاتلوا ليس عن الملك بل عن كرامة سورية، وقال لفيصل سنقاتلهم حتى لا يّقال إن الاحتلال دخل دمشق بلا قتال ولا مواجهة رجال. سلطان الأطرش، الذي واجه الجيش الفرنسي ببنادق معدودة وأكمل الثورة بالغنائم، وقاد أشرف ثورة شعبية لم تقبل أن ترتهن لمال أجنبي أو تأثير دولي، وتمتعت في كل تاريخها بقرار سوري مستقل، ولم يبخل سلطان وبيته وعشيرته بتقديم عشرات آلاف الشهداء وما يملكون مما تراكم جنيُه خلال أجيال لأجل كرامة سورية وكرامة المقاومة في جنوب لبنان المقاوم ادهم خنجر . أنطون سعاده وهو المفكر والمؤسس والمشرع لعقيدة المقاومة التي شكلت مدرسة جديدة استمدّت روحها من تاريخنا السياسي والثقافي والقومي، ولا يمكن لأي مقاومة في أمتنا والعالم من إغفال ما قالت به وما فعلته لانتصار حق الشعوب في الوجود والحياة… وكواكب القادة لا تنتهي.. وليس آخرهم سيد المقاومة حالياً الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.

تحديداً، كرّس الانتصار مبدأ جوهرياً أن الهزيمة ليست من طبيعتنا ومن لزومها. بل أكد أنها عارض من عوارض الإدارة السياسية وآثارها الاجتماعية والنفسية والقيمية والفكرية. لم يكن العقل السياسي فينا والذي تمكّن من الحكم لأسباب وأسباب، قد تمكّن من التحرر من قواويش القواعد البائدة، بخاصة الجاهلية العربية والعثمانية التي ركّزت نظرتها، على الفرد، وسلبته أي قوة، وحوّلته إما عبداً لقبيلة وعدداً من تعدادها وإما درويشاً منسحباً من دورة الحياة ومنكفئاً عن شرايين القوة فيها، ليردد كما تثغو الجماعات المتناسلة: لتكن إرادتك. وما أنا سوى عبد صغير تحرّكني. إن لم تكن ما تريد فأرد ما يكون.

الهزيمة، بكل صنوفها ومظاهرها سلبت من الإنسان الفرد، ومن الإنسان المجتمع، حرية التعرف إلى ذاته وكينونته، حرية التفكير، حرية الاختيار، حرية القرار، حرية الموقف.

منعت الهزيمة ونظامها الأخطبوطي المتعدد الرؤوس إمكان نمو حياة قومية اجتماعية صحية: سياسياً بالإقطاع وظلال الأجنبي دينياً بالدراويش والقليلي الإبداع والتفقه من رجال الدين والمقلدي السائد المتوارث فكرياً بالنظام التعليمي المنسوخ من استراتيجية تعلمية وتعليمية غريبة لا تشبه ولا تقارب بيئتنا ونفسيتنا ومرامينا وطبيعة حياتنا اجتماعياً بالفردية والطبقية والمذهبية والمناطقية والجهوية والتراكمية من الأنظمة الغريبة والأقليات المحشورة في بيئة مقطعة الوصال يحكمها الخوف من الآخر وخشية الانفتاح عليه، فـ «لا تتعشَّ عند درزي» و«لا تبيت عن شيعي» و«لا تأكل من طبق مسيحي».. هذا الآخر هو بعبع مخيف وثقب أسود قاتل وسالب لك ولحياتك ولقيمك ولإيمانك ولدينك ويتهدّد مصيرك!!

المقاوم تحرّر من الهزيمة. تحرّر من نظرته إلى نفسه مهزوماً. تحرّر من تراكم الهزيمة ومن أنقاضها على عقله ونفسه وقلبه وروحه وطار كنسر فتيّ.

تحرّر المقاوم لم يتم عادة بـ «قبس دخل صدري فآمنت». ككشف غيبي مجهول المصدر. كسرِّ من عالم أسرار سحري تسلل من جنية إلى عالمنا الطفلي فتكشفنا لذواتنا وعقولنا. لا!

تحرُّر المقاوم نتيجة. هذا التحرر حصيلة تطور تاريخي وموضوعي، نفسي فكري سياسي استراتيجي، لسياق قومي اجتماعي متجذر فينا، كمشارقة.

لم يكن التحرّر فقط، بسبب توفر الحليف والداعم الخارجي، الإسلامي أو غير الإسلامي. هذا الدعم لم يخلق المقاومة ولا روح التحرّر ولم يوجد قوافل الشهداء ولا الأبطال وأعلام الفكر والقادة الكبار. الدعم أسهم في تجلي روح المقاومة وفي جلاء إنجازها وتحقيقها بفترة قياسية. أسهم في اكتسابها مناعة صحية وحضانة شعبية، وبلورة قيادة فعالة ومؤثرة ومبدعة التنظيم وسريعة الدينامية وقادرة على استيعاب الموقف وتحليله كبنية جمعية متماسكة في الظروف كلها، وتخطيط ما يجب أن يكون غداً، كيوم تالٍ.

هذا فارق نوعي في تطور المقاومة لم يتوفر لما سبق من ظواهر مقاومة وحالات تحرر في بلادنا بالكيفية نفسها ولا بالنوعية نفسها ولا بالكمية نفسها.

الانتصار.. حياة جديدة تدب في ركامنا القومي نبضاً فهل يقوم؟

باحث وناشر موقعَي حرمون haramoon.org/ar والسوق alssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى