لغة عبد الحليم كركلّا
د. مروان فارس
أحد يعرف كلّ هذا عن تلاقي الحضارات وإن ابتعدت في الأرض والوقت. أحد يصنع من الذاكرة معجزة في زمن انتهت فيه الأعاجيب.
أحد يلتقي مع الفكرة وهي تنتقل في المراحل إلى حيث تحطّ الخيول فلا تلتقي السيوف إلا في إثبات الحقيقة من اللحظة التي تغلّفها وهي تقهر الأرض والسموات معاً.
أحد يعرف كلّ هذا. عبد الحليم كركلّا، وقد ألقى غبار الانحدار من وجهة إلى وجهة أخرى. فالوجهات كلّها تلتقي في لعبة الألوان والثياب. تعبّر عن إرادة الكلّ الذي يحكي لغة غير اللغات التي نعرفها جميعاً. وصاحب قلعة بعلبك يعلّمها لمن لا يعرف من العلم إلا الصوت الذي ينبعث من معبد الإله باخوس وهو يشرب خمرة التطلّعات إلى زمن جديد. الزمن كلّه في ما مضى، فما هو آت لا يعرف الحدّ عند عبد الحليم كركلّا. فهو لا يعرف اصطناع الحدود من الهند إلى السند إلى الصين، إلى دول غربية ودول تحكي كلّها لغة واحدة هي لغة عبد الحليم كركلّا.
هو وحده عبد الحليم كركلّا تعرّف ذات يوم إلى جوبيتر فقال له هذا: أنتَ منّا فامضِ في طريق المعرفة التي تصنع وحدها المدن والآلهة.
غريب كلّ هذا في أرض لا سماء لها. وفي سماء لا أفق لها، لأنّ الإبداع يحوّل الأشياء من النظرة إلى الانتظار. فترى إلى العمل الإبداعي عملاً لا بدء له ولا نهاية، وإن كان يتمدّد يقصّ قصّة الذين غادروا المدينة إلى أصقاع الأرض كلّها ليجعلوا من المدينة ـ بعلبك ـ مدينة ساحرة، وإن انتهى زمن السحر ليبدأ زمن جديد يتعارف عليه المبدعون بأنّه زمن عبد الحليم كركلّا.
في هذا الكلام لا مغالاة، إنما وضع النقاط للحفاظ على الحروف في اللغة الجديدة التي لا يفقه فيها إلّا الفقهاء. فاسألوا الشيرازي وعمر الخيّام عن ذلك، ولا تنسوا طلال حيدر الذي يكتب بريشة غير قاصرة في الكتابة الشعرية.
هذا الرجل يخترع لغة جديدة في الموسيقى والإيقاع والرقص. إنّه يقصّ صورة الزمان وإن كانت خالية من الخاتمة. ذلك لأنّ مسرح عبد الحليم كركلّا لا بداية له ولا خاتمة. إنه يبتدئ في التصوّر، فلا ينتهي عند انتهاء النصّ، بل يذهب النصّ من الحركة إلى حيث تتواصل الحركات التي يشارك في وضعها كلّ من إيفان وأليسار وحنين، ومئات المغنّين والراقصين والشعراء. عمر الخيّام والشيرازي والكلّ من الذين صنعوا الحضارة في الزمن القديم.
هنا، لا يعود هنالك فارق بين الزمن العابر والزمن الآتي. فلا أحد يعرف أن يمحو الحدود بين ما هو في الماضي وما هو في الحاضر. ذلك لأن بعلبك تختصر المسافة بين إله الآلهة جوبيتر وبين إله الخمرة باخوس، وحيث يتراقص الآلهة القاطنون في المدينة ليجعلوا منها مدينة على غرار ألوهتهم. فمن المبدعين والفنانين في العالم لا يحلم بأن يقف على أدراج الهياكل. كلّهم يريدون أن يكونوا آلهة. إلا أنّ ليلة في مدينة بعلبك، تختصر الليالي التي لا يعرفها إلّا الذين تعلّموا السهر في حديقة الورد، حديقة الأسئلة غير المتناهية حول إمكانية أنّ أحداً سوف يقدر في زمنٍ ما أن يصنع عملاً روائياً غبر هذا. هنا عنده لا فرق بين القصّة القصيرة والرواية الطويلة.
أيّها الناس، إنّ عبد الحليم كركلّا يصنع زمناً لمدينة بعلبك، زمناً للبنان، سوف يقول فيه كثيرون الشعراء لوقت طويل.
نائب في البرلمان اللبناني