تقرير
نشر «معهد واشنطن» تقريراً جاء فيه:
إن الهواجس في شأن احتمال ممارسة الإرهاب غير التقليدي في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في ريو دي جانيرو لعام 2016، وتقارير بأن أشخاصاً متورّطين في الهجوم الذي نفّذه تنظيم «داعش» في باريس في تشرين الثاني 2015 قاموا بمراقبة عالم يعمل في «مركز الأبحاث النووية البلجيكي» عبر أشرطة الفيديو، أدّت إلى إعادة إحياء المخاوف بأن الجماعات الإرهابية قد تكون مهتمة بصنع «قنبلة قذرة» بواسطة مواد إشعاعية، والتي تُعرف أيضاً بالسلاح الإشعاعي أو جهاز التشتيت الإشعاعي RDD المتفجّر.
وتعتبر أجهزة التشتيت الإشعاعي المتفجّرة أكثر أنواع السلاح الإشعاعي تداولاً في الإعلام. فهي تعتمد على عبوة ناسفة لتشتيت المواد الإشعاعية من أجل تلويث الأفراد والمنشآت على مقربة من الانفجار ومع اتجاه الريح، وتعطيل الحياة وسبل المعيشة وزرع الخوف. وفي المقابل، قد تشمل أجهزة التشتيت الإشعاعي غير المتفجّرة تلويث الطعام أو المياه أو الهواء بمواد إشعاعية على سبيل المثال، عن طريق نظام التهوية في المبنى . وهناك تقارير بأن بعض الجماعات قد فكرت أيضاً بتخريب محطات للطاقة النووية أو مهاجمتها لإحداث غيمة إشعاعية من شأنها تلويث منطقة واسعة وفي الواقع، تكهنت بعض التقارير الإعلامية أن البلجيكي المذكور في الخلية البلجيكية من تنظيم «داعش» كان يفكر بالقيام بمثل هذا الهجوم .
يركز هذا التقرير على التهديد الذي تشكله أجهزة التشتيت الإشعاعي المتفجرة.
لطالما أبدى الإرهابيون اهتماماً بالأسلحة الإشعاعية. ففي عام 1995، اتصل انفصاليون شيشان بمحطة تلفزيون روسية وهدّدوا بإطلاق جهاز تشتيت إشعاعي باستخدام مواد من «السيزيوم 137» كانت مطمورة في إحدى حدائق موسكو. وقد تم العثور لاحقاً على مخبأ للمواد الإشعاعية. وبعد ثلاث سنوات، عثرت قوات الأمن الشيشانية على جهاز تشتيت إشعاعي بمحاذاة سكة حديد على مقربة من العاصمة غروزني. وفي عام 1999، قُتل شخص ونُقل آخر إلى المستشفى على إثر إصابته بداء الإشعاع بعد محاولته سرقة حاوية من المواد المشعة من منشأة صناعية في غروزني.
وقد أبدى تنظيم «القاعدة» أيضاً اهتماماً بالأسلحة الإشعاعية، فضلاً عن الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية. ففي عام 2002، تم توقيف الأميركي الذي اعتنق الإسلام خوسيه باديلا على خلفية تخطيطه لصنع سلاح إشعاعي بعد عودته من مخيم تدريب تابع لتنظيم «القاعدة» في باكستان. وفي عام 2003، استحوذت قوات التحالف في أفغانستان على مخططات لصنع قنبلة قذرة. وفي هذا السياق تفيد بعض التقارير أنّ أبا زبيدة، وهو عنصر من تنظيم «القاعدة» ألقِي القبض عليه، أبلغ المحققين أن تنظيم «القاعدة» قد أقدم فعلياً على صنع مثل هذا الجهاز، مع أنه لم يُعثر على أي من تلك الأجهزة. كما يبدو أن البريطاني التابع لتنظيم «القاعدة» ديرين بارو، الذي اعتنق الإسلام أيضاً، كان يخطط لصنع جهاز تشتيت إشعاعي، من بين مختلف المخططات الأخرى، والتي على خلفيتها ألقي القبض عليه في بريطانيا عام 2004. كما ذكرت بعض التقارير، أن خبير الأسلحة غير التقليدية التابع لتنظيم «القاعدة» مدحت مرسي السيد عمر كان يخطط بدوره لصنع جهاز تشتيت إشعاعي قبل مقتله عام 2008 على إثر هجوم بطائرة من دون طيار في باكستان.
قد يكون تنظيم «داعش» مهتماً أيضاً بصنع جهاز تشتيت إشعاعي، غير أن الأدلة على ذلك ظرفية إلى حد كبير. فعلى غرار تنظيم «القاعدة» و«القاعدة في العراق» من قبله، أبدى تنظيم «داعش» اهتماماً بالأسلحة غير التقليدية واستخدم الأسلحة الكيماوية في القتال في سورية والعراق. وبالتالي، عندما استولى تنظيم «داعش» على جامعة الموصل في حزيران 2014 ووضع يده، وفقاً لبعض التقارير، على 40 كيلوغراماً من المواد النووية في مختبرات الجامعة، برزت مخاوف من احتمال استخدام تلك المواد لصنع جهاز تشتيت إشعاعي. ويبدو أن اكتشاف شريط المراقبة الآنف الذكر في أعقاب تفجيرات باريس في تشرين الثاني 2015 أكد صحة تلك المخاوف بأن تنظيم «داعش» قد يكون مهتماً بصنع قنبلة قذرة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا هذا الاهتمام المحتمل في الإرهاب الإِشعاعي؟
يسعى الإرهابيون إلى إحداث الذعر، ولذلك تستهويهم أجهزة التشتيت الإشعاعي إلى حدّ كبير. فالنظائر الإشعاعية تُستخدم على نطاق واسع في مجالات الطب والزراعة والصناعة، ويتم إبلاغ «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» كل سنة عن عشرات حوادث السرقة أو الفقدان المرتبطة بتلك المواد في جميع أنحاء العالم قد يكون العدد الفعلي أعلى من ذلك، على رغم أن عدداً من هذه النظائر المشعة غير مناسب لصنع أجهزة التشتيت الإشعاعي . وقد تكون المخاوف الناجمة عن فعل إرهاب إشعاعي طويلة الأمد، نظراً لأن آثارها الطبية السلبية قد لا تظهر إلا بعد عقود. كما أن التعامل المثير لوسائل الإعلام مع موضوع الأسلحة الإشعاعية، والذي يعزى جزئياً إلى وجود اتجاه للخلط بينها وبين الأسلحة النووية، قد يضخّم تلك المخاوف. وفي ما يتعلق بإدارة العواقب، أي رعاية المصابين وإزالة التلوث، يكاد يكون من المؤكد أنها ستكون معقدة ومطولة ومكلفة، وقد تُفاقم المشاكل الناجمة عن جهاز التشتيت الإشعاعي إذا لم تتم على النحو الصحيح. وفي هذا الصدد، تُعدّ أجهزة التشتيت الإشعاعي حقاً كأسلحة التعطيل الشامل.
بيد أنّ، من منظور الإرهابي، هناك عدة سلبيات لأجهزة التشتيت الإشعاعي. فبعض النظائر المشعّة قد تسبب إصابات بجروح أو حالات وفاة إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح، وبالتالي يمكن الاعتبار أنها تتمتع بنوع من الحماية الذاتية ضدّ السرقة أو التسريب. ولا يُعتبر صنع جهاز تشتيت إشعاعي فعال مسألةً بسيطة، نظراً لأن أجهزة التشتيت الإشعاعي المتفجرة لم تُستخدم قط من قبل، وتبعاً لذلك، لا خبرة عملية سابقة يمكن الاستفادة منها في هذا السياق. ومن هنا، فإن فعالية جهاز التشتيت الإشعاعي تخضع لعدّة عوامل غير مؤكدة. وعلى عكس ذلك، فإن المواد الضرورية لصنع الأجهزة المتفجرة التقليدية متاحة بسهولة، والدراية المتعلقة بها منتشرة على نطاق واسع، كما أن آثارها متسقة ويمكن التنبؤ بها نسبياً ولديها سجل مشهود له من التجارب الناجحة. ومع ذلك، ستظل الجماعات الإرهابية أسوةً بتنظيم «داعش» مهتمة بصنع جهاز تشتيت إشعاعي لكي تتصدّر عناوين الصحف، وتفرض تكاليف باهظة، وتبث الذعر بصورة أكثر فعالية مما تتيحه الأجهزة المتفجرة التقليدية.
إن معظم الإصابات التي يسببها جهاز تشتيت إشعاعي متفجر قد تنتج على الأرجح عن آثار الانفجار والتشظّي الناجمة عن الشحنة المتفجرة، رغم أنّ عدداً قليلاً من الأفراد قد يعانون من آثار طبية سلبية على المدى الطويل على سبيل المثال، السرطان أو الضرر الوراثي الناجمة عن الغبار والمخلفات الإشعاعية التي تكون قد استقرت في أجسادهم أو استنشقوها أو ابتلعوها. إلا أن الآثار الطويلة الأمد تعتمد جزئياً على درجة الإشعاع والعمر النصفي للنظير المشع المستخدم. فبعض النظائر مثل «كوبالت 60» و«سيزيوم 137» و«إريديوم 192» و«أميركيوم 241» تُعتبر أفضل من غيرها لصنع أجهزة التشتيت الإشعاعي.
من المحتمل أن يكون هناك القليل من الأضرار المادية في المنطقة المجاورة لجهاز التشتيت الإشعاعي غير تلك الناجمة عن الشحنة المتفجرة، إلا أن تلوث التربة والتلوث البنيوي قد يحصلان على نطاق واسع ويستوجب من السكان والشركات الانتقال إلى أماكن أخرى لفترة طويلة خلال إزالة التلوث. وتعتمد رقعة المنطقة الملوثة على مدى فعالية تصميم القنبلة، وحجم الدخان الناتج عنها، والرياح والظروف الجوية خلال الانفجار وبعد بوقت قصير من وقوعه، وأثر التضاريس الحضرية على التيارات الهوائية.
أما أهم الآثار الطويلة الأمد للقنبلة القذرة فقد تكون نفسية. فالإشعاعات غير مرئية، وسيخشى الكثير من الناس في أماكن قريبة منها من آثار التعرض للإشعاعات. وستسعى أعداد كبيرة من الأفراد غير المتأثرين بالإشعاعات للحصول على علاج طبي، فيثقلون بذلك كاهل النظام الطبي ويتسببون بتراجع جودة العناية المقدمة لمن هم بحاجة إليها حقاً. كما سيقلق الكثيرون غيرهم من الآثار السلبية على المدى الطويل نتيجة تعرضهم المحتمل للإشعاعات، سواء تعرضوا لكمية كافية منها تدعو للقلق أم لا.
يتمثل أحد التحدّيات الرئيسة التي تواجه أول المستجيبين لهجوم، باحتواء أثره ضمن موقع الانفجار ومنطقة الخطر الواقعة ضمن اتجاه الريح، نظراً لأن معظم الناس سيفرّون من المنطقة قبل أن يتم الإعلان عن حصول هجوم إشعاعي. ويتعيّن تحديد الأشخاص المتأثرين بالإشعاعات وخضوعهم لإزالة التلوث من خلال خلع ملابسهم والاستحمام، وكلما أزيل التلوث بصورة أسرع كلما كان ذلك أفضل من أجل الحدّ من التعرّض للإشعاعات. ويتعيّن التخلص من الملابس الملوثة على النحو الملائم، تماماً كمياه الصرف الصحي. أما الجهود المتأخرة أو غير الملائمة من ناحية الاحتواء أو الاعتناء بالمصابين أو إزالة التلوث فقد تؤدي إلى انتشار المواد المشعة على نطاق أبعد بكثير من موقع الهجوم، ما يفاقم آثارها.
ومن بين تحدّيات التنظيف إزالة التلوث من الشوارع والمباني، لكي تشمل هدم البنى التي لا يمكن إزالة التلوث منها بطريقة فعالة من حيث التكلفة. وبالتالي، قد يكون التنظيف مكلفاً للغاية ويتضمن مطالبات بالتأمين قد تكون باهظة جداً. فالتكاليف المادية المترتبة حتى عن هجوم صغير قد تكون كبيرة، على سبيل المثال إن القيام بهجوم بواسطة جهاز التشتيت الإشعاعي على شارع وول ستريت في مانهاتن السفلى قد يؤدي إلى إغلاق المنطقة لبعض الوقت، مع تأثيرات كبيرة على الأسواق المالية والاقتصاد العالمي.
وإذا فشلت السلطات في احتواء عواقب هجوم إشعاعي بنجاح أو في اتخاذ قرارات في شأن مستويات إزالة التلوث المقبولة التي لا تلبّي التطلعات العامة، فقد تتعرض لردّ فعل شعبي غاضب. وفي ضوء الحالات السابقة التي لم يلبّ فيها أداء الحكومة الأميركية التطلعات العامة، مثل إعصار كاترينا 2005 وأزمة تلوث مياه مدينة فلينت بولاية ميشغن 2014 ، فقد لا يقبل الجمهور تطمينات السلطات بأن المنطقة قد أصبحت آمنة للسكن أو العمل. وسيخلق ذلك فرصة ذهبية لجماعات على غرار تنظيم «داعش» لكي تشنّ حملة دعائية من شأنها تقويض الثقة العامة بالحكومة.
إن احتمال استخدام جهاز تشتيت إشعاعي من قبل تنظيم «داعش» أو جماعة أخرى في مدينة أميركية هو خطر يجب أن يؤخذ على محمل الجد، حتى لو كان من غير المرجح أن يضع الإرهابيون يدهم على مواد إشعاعية، أو يصنعوا جهازاً فعالاً نتيجة افتقارهم لخبرة سابقة. وفي الواقع، حتى الهجوم الذي لا يؤدي إلى انتشار مواد إشعاعية بصورة فعالة عبر منطقة كبيرة قد يكون له أثراً اقتصادياً أو نفسياً كبيراً.
إضافة إلى ذلك، رغم التقدّم الذي أحرزته الحكومة الأميركية منذ اعتداءات 11 أيلول في تأمين المصادر الإشعاعية وتعزيز قدرات الاستجابة على الإرهاب الإشعاعي، إلا أنه ليس من الواضح ما إذا كان باستطاعة أول المستجيبين وأجهزة الطوارئ أن يكونوا على أهبة الاستعداد والجهوزية لمواجهة هجوم إشعاعي، نظراً للتحديات الكامنة في احتواء انتشار المخلفات الإشعاعية، والتنسيق الفعال بين عدد من الوكالات المحلية والرسمية والفدرالية التي ستشارك في الاستجابة على احتواء الانتشار وإزالة التلوث من أعداد كبيرة من الناس والبنى.
ويُعتبر احتمال شنّ هجوم إشعاعي في الخارج أكثر ترجيحاً، رغم التقدم الذي أحرزته دول كثيرة في حماية المواد الإشعاعية والنووية، وبمساعدة الولايات المتحدة في عدة حالات. على سبيل المثال، نظراً لقدرات تنظيم «داعش» من حيث الوصول والانتشار، لا يُعتبر احتمال قيام التنظيم بشن هجوم بواسطة جهاز تشتيت إشعاعي خام في سورية أو العراق أو حتى أوروبا بعيد المنال. ومثل هذا الحدث لديه القدرة على تسبب الكثير من الخوف، لا سيما أن معظم الحكومات الأجنبية لا تملك موارد وخبرة بقدر تلك التي تملكها الولايات المتحدة للتعامل مع تداعيات مثل هذا الهجوم.
ويشير كل ذلك إلى حاجة الولايات المتحدة إلى الاستعداد لمثل هذا السيناريو المحتمل، وليس في الداخل فحسب بل في الخارج أيضاً، وتكون قادرة على مساعدة الحكومات الصديقة على تجنب عواقب مثل هذا الهجوم أو التعامل معه إذا ما دعت الحاجة. فضلاً عن ذلك، لا بدّ من أن تعتمد الولايات المتحدة خطة تواصل استراتيجي موثوقة للتصدّي للإرهاب الإشعاعي، لأن زرع الخوف والذعر هو من أهم الأسباب التي قد تدفع الإرهابيين إلى شنّ مثل هذا الهجوم. وتحقيقاً لهذه الغاية، لا بدّ أن تقوم الحكومة الأميركية بتثقيف الجمهور حول كيفية الاستجابة للإرهاب الإشعاعي، من أجل إزالة الغموض الذي يكتنف أجهزة التشتيت الإشعاعي وتبديد مخاوف الجمهور.
إلا أن التواصل الاستراتيجي يقوم بنسبة 20 في المئة على الكلام و80 في المئة على الأفعال، وإذا لم تنجح وكالات الحكومة الأميركية، سواء كانت محلية أو رسمية أو فدرالية، في تولي بعض جوانب الاستجابة الأولية على النحو الملائم، فحتى أفضل خطط التواصل الاستراتيجي من حيث الصياغة ستبوء بالفشل. وفي الوقت الذي تُعتبر فيه ثقة المواطنين بكفاءة الحكومة الأميركية مهتزة بالفعل، فقد تترك هذه الحادثة أثراً ملحوظاً على نسيج السياسة الأميركية.