الإجماع على هيلاري كلينتون يضرّ بالديمقراطية

ترجمة: نور حريري

كتب سلافوي جيجيك:

قال آلفرد هيتشكوك ذات مرّة: «يكون الفيلم جيداً بقدر ما يكون شرّيره» ـ هل يعني هذا أن الانتخابات الأميركية المقبلة ستكون جيدة بما أن «الفتى الشرّير» دونالد ترامب هو الشرّير المثالي تقريباً؟ نعم٬ لكن بمعنى إشكالي للغاية. بالنسبة إلى الغالبية الليبرالية٬ تمثل انتخابات 2016 خياراً واضح المعالم: إن رمز ترامب هو شطح مبتذل ومثير للضحك٬ ويستغل أسوأ ما فينا من تعصّب عنصري جنسيّ٬ رجل شوفينيّ يفتقر إلى اللياقة بشدّة٬ حتى الأسماء الجمهورية الكبرى تتخلى عنه جماعاتٍ. إن بقي ترامب المرشح الجمهوري٬ فسنحظى بـ«انتخابات مبهجة» حقاً ـ على رغم مشاكلنا ومشاحناتنا الصغيرة كلّها٬ حين يكون هناك تهديد حقيقي يمكننا جميعاً أن نتكاتف معاً في الدفاع عن قيمنا الديمقراطية الأساسية٬ كما فعلت فرنسا بعد هجوم «شارلي إيبدو» في كانون الثاني 2015.

لكن هذا الإجماع الديمقراطي الدافئ ليس صحياً للسياسة أو لليسار. نحن بحاجة لأن نخطو خطوة إلى الوراء وأن نحوّل أنظارنا عن أنفسنا: ما طبيعة هذه الوحدة الديمقراطية الشاملة تماماً؟ الجميع هناك٬ من وول ستريت إلى أنصار بيرني ساندرز إلى ما بقي من احتجاجات «احتلوا»٬ من الشركات الكبرى إلى النقابات العمالية٬ من المحاربين القدامى إلى المجتمعات المثلية٬ من علماء البيئة الذاهلين أمام إنكار ترامب لارتفاع درجات حرارة الكرة الأرضية والحركات النسوية المبتهجة لاحتمال وصول أوّل امرأة إلى الرئاسة٬ إلى الشخصيات الجمهورية «اللائقة» التي تفزعها تناقضات ترامب والمقترحات «الغوغائية» غير المسؤولة.

لكن ما الذي يتوارى في هذا التكتل الشامل للجميع كما يبدو؟ الغضب الشعبي الذي أنجب ترامب وأنجب ساندرز كذلك٬ وبينما يعبّر كل منهما عن استياء اجتماعي وسياسي واسع النطاق٬ فهما يفعلان ذلك بمعنى عكسيّ٬ الأول منخرط في شعبوية يمينية٬ والآخر يؤثر الدعوة اليسارية إلى العدالة. وهنا تأتي الخدعة: إن الدعوة اليسارية إلى العدالة تميل إلى الاندماج مع النضالات من أجل حقوق المرأة وحقوق المثليين٬ وتعدّد الثقافات٬ ضدّ التمييز الذي يشمل العنصرية. إن الهدف الاستراتيجي من الإجماع على كلينتون هو فصل هذه النضالات كلّها عن الدعوة اليسارية إلى العدالة٬ وهذا هو السبب في أن الرمز الحي لهذا الإجماع هو تيم كوك٬ الرئيس التنفيذي لشركة «آبل» الذي وقّع بفخر على الخطاب المؤيد للمجتمعات المثلية والذي أصبح في إمكانه الآن أن ينسى بسهولة آلاف العمال في شركة «فوكسكون» في الصين الذين يجمّعون منتجات «آبل» في ظروف استعبادية ـ لقد قام بمبادرته الكبرى للتضامن مع الفقراء والمعدمين٬ مطالباً بإلغاء الفصل الجنسيّ.

لقد تجلّى الموقف نفسه بصورة فاقعة مع أول وزيرة خارجية أميركية امرأة، مادلين أولبرايت٬ التي هي من أهم مناصري كلينتون كانت قد خدمت في إدارة حكومة زوجها بيل كلينتون من عام1997 حتى عام 2001. في برنامج «60 دقيقة» على قناة «سي بي إس» 12 أيار 1996 ٬ سُئلت أولبرايت عن ضربات صواريخ «كروز» في تلك السنة على العراق المعروفة بِاسم عملية «ثعلب الصحراء»: «لقد سمعنا أن نصف مليون طفل لقوا حتفهم. أعني٬ هذا يتجاوز عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما. وكما تعرفين٬ هل الثمن يستحق ذلك؟». أجابت أولبرايت بهدوء: «أعتقد أن هذا خيار صعب جداً٬ لكن الثمن ـ نحن نعتقد أن الثمن يستحق ذلك».

دعونا نتجاهل كل الأسئلة التي يثيرها هذا الردّ ونركّز على جانب واحد: هل يمكننا أن نتخيل الجحيم الذي سيندلع من جرّاء تقديم الإجابة نفسها من طرف شخص مثل بوتين أو الرئيس الصينيّ شي؟ ألن ينقضّوا في الصحف الغربية على الفور مستنكرين بوصفهم همجاً قساة عديمي الرحمة؟ في إقامة الحملات من أجل هيلاري٬ تقول أولبرايت: «هناك مكان خاص في الجحيم للنساء اللاتي لا يساندن بعضهن!». المعنى: من سيصوّت لساندرز بدلاً من كلينتون . لربما يجب علينا تعديل هذا التصريح: هناك مكان خاص في الجحيم للنساء والرجال الذين يعتقدون أن موت نصف مليون طفل، ثمن معقول لتدخّل عسكري يدمّر بلداً٬ بينما تكون المخلِصة المناصرة لحقوق المرأة وحقوق المثليين قابعة في البيت .

إن ترامب ليس ماءً عكراً يجب التخلص منه للحفاظ على سلامة طفل الديمقراطية الأميركية السليم٬ هو نفسه طفل عكر يجب التخلص منه بهدف تسليط الضوء على الطبيعة المضطربة للإجماع حول كلينتون. إن الرسالة من هذا الإجماع إلى اليساريين هي: يمكنكم الحصول على كل شيء٬ نحن نريد الحفاظ على الضروريات فحسب٬ على أداء رأس المال العالمي غير المقيد. إن جملة الرئيس أوباما «نعم٬ نستطيع!»، تكتسب اليوم معنى جديداً: نعم٬ نستطيع منحك مطالبك الثقافية كلّها من دون أن نعرّض اقتصاد السوق العالمية للخطر ـ لذا لا حاجة لاتخاذ تدابير اقتصادية جذرية. أو كما يصوغها الأستاذ في نظرية وتاريخ السينما في جامعة فيرمونت٬ تود مكجوان٬ في اتصال خاص : «إن إجماع الأشخاص ذوي الآراء القويمة المناهضين لترامب هو إجماع مفزع. يبدو الأمر كما لو أن شطحه يجيز ظهور الإجماع الرأسمالي العالمي الحقيقي وتهنئة أنفسهم على انفتاحهم».

وماذا عن المسكين بيرني ساندرز؟ للأسف٬ فقد أصاب ترامب الهدف حين قارن تأييد ساندرز لهيلاري بتأييد حركة احتجاجات «احتلو» لبنك «ليمان براذرز». يجب على ساندرز أن ينسحب وأن يلزم صمتاً وقوراً فحسب بحيث يثقل غيابه على احتفالات هيلاري٬ مذكراً إيانا بما هو مفقود، ومبقياً الساحة٬ بهذه الطريقة٬ مفتوحة أمام المزيد من البدائل الجذرية في المستقبل.

كاتبة ومترجمة سوريّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى